توجد بدائل كثيرة متاحة أمام المعنيين بتغيير الواقع العالمي، وقد قدَّم الإمام الشيرازي، جملة من المقترحات العملية التي يمكن من خلالها، صنع توازن عالمي شامل، يحفظ للجميع كرامتهم، إذ لا توجد فائدة في الإبقاء على العالم متوترا، محتقنا، مهلهلا، وما على المعنيين، في المعسكر (الأقوى) سياسيا واقتصاديا، إلا المبادرة بطرح البدائل المناسبة...
(الأزمات والمشاكل التي يعاني منها العالَم اليوم، سببُها عدم إنسانية الفكر)
الإمام الشيرازي
لا يستطيع أحد أن يُنكر بأن عالمنا اليوم يغوص في الأزمات والمشاكل، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ومع تقدم الزمن إلى أمام، تتدنى فرص تغيير العالم وتخليصه من بؤر التوتر، ومن مشكلات الجوع، والصراعات، وقانون التصادم الذي لا يزال يفرض نفسه على سبل الحوار لحلّ الأزمات.
منطق القوة هو السائد، والأنانية تتسيَّد كل العلاقات الدولية المتبادلة، بما فيها العلاقات الاقتصادية، ولسنا نقول مثل هذا الكلام من باب التشاؤم، لأننا ننطلق من واقع وشواهد وبراهين يعجّ بها عالم اليوم، وكلّها لا تدع أمامنا فرصة الدفاع عن إنسانية العلاقات العالمية، على العكس من ذلك، تسعى جميع الدول، وعلى رأسها (الكبرى)، كي تضاعف من الأزمات وتأجيج الأوضاع.
العلماء والفلاسفة والمفكرون الإنسانيون، مطالَبون أكثر من أي وقت مضى، بدراسة ما يجري اليوم، وبحث ما تعانيه البشرية من أزمات وصراعات تحرق الأخضر واليابس على وجه البسيطة، والسعي لوضع الحلول المناسبة، لأننا بخلاف ذلك، نمضي باتجاه المجهول، حيث تسود القوة، ويتراجع الحوار، وتقل فرص العدالة مما يجعل عالمنا مكبّلا بحالة مرضية مميتة.
لقد رصد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) هذا الوضع العالمي المريب، وأشَّر ما يعانيه بوضوح، وتساءل مرارا وتكرارا، لماذا تتخلى البشرية عن مسؤوليتها في إنقاذ نفسها؟؟
وقد شخّص وأظهر الأسباب والمشكلات التي جعلت من عالمنا موبوءاً بالأزمات، واقترح الحلول، ووضع جميع النقاط على حروفها في هذا الشأن، وشخَّص العلل التي يعاني منها عالم اليوم لاسيما الاحتكار والإستقواء والأنانية، ورأى بأن المرض، يحاصر العالم من جميع الجهات، وكشف عن الأسباب بوضوح، حيث قال (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):
(الحالة التي يعيشها العالم في الوقت الحاضر، هي حالة مرضية، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وما لم يتم تغيير هذه الحالة من مرضية إلى حالة صحية، فسوف يظل العالم يتخبط في دياجير، وظلمات، ومشاكل أسوأ من المشاكل التي كان يتخبّط فيها سابقا).
كما أكد الإمام الشيرازي، على ضمور الفكر الإنساني، وتضخّم الأفكار القائمة على التطرف، والغبن، والعنصرية، والاستئثار، لاسيما في الصراعات والتصادمات بين الإرادات الدولية، لحماية المصالح القومية، وترك النسبة الأعظم من سكان الأرض، يواجهون أمراضا لا يمكن حصرها، يتصدرها الثالوث الخطير (الجهل، التخلف، المرض).
أزمات الأثرة والتفاوت الطبقي
يتساءل الإمام الشيرازي حول هذه النقطة بالذات، فيقول:
(لماذا يبقى عالَمنا اليوم مغلَّفاً بالأنانية، والأثرة، والتفاوت الطبقي؟)، ثم يعطي الجواب والأسباب حين يقول (رحمه الله): سوف يبقى كذلك، طالما تحكمه الموازين العنصرية وليس الموازين الإنسانية).
أحدهم وصف العالم كأنه جسد واحد، وأن أعضاءه جميع الدول، والبشرية هي الدماء التي تحيي هذا الجسد، لهذا ليس صحيحا أن تتغاضى البشرية عن العلل التي تصيب أجزاءها الضعيفة، وهذا يعني أن الخطأ الذي يرتكبه الركب المتقدم من العالم جسيم وكبير وخطير في نفس الوقت، فالأمراض التي تعانيها الدول الضعيفة، سوف تؤثر على الأقوياء أيضا.
من هنا على الدول القوية المستقرة على المستوى العالمي، أن تتصدى اليوم لأمراض العنصرية لا أن تدعمها أو تؤججها، كما حدث مؤخرا في فرنسا على سبيل المثال، فليس هناك من يستفيد في العالم أجمع من هذه المعارك ذات الطابع العنصري، بل المطلوب إحياء واستنهاض القيم التي تنشر القيم النبيلة في عالم اليوم المحتقن.
لا يجب السماح للكراهية أن تسود العالم، ويجب تقليص الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء على المستوى العالمي، كما أننا جميعا مطالَبون، لاسيما من يمتلك القدرات المطلوبة، بأن ننشر الحب بدل الأنانية، وحسن الظن بدل السوء، والتعاون، وردع الفساد، في الدول الضعيفة والقوية على حد سواء.
الإمام الشيرازي، أكد على هذه الحلول والخطوات، وطالب بالشروع في تطبيقها لإنقاذ البشرية كلها، من أوبئة الأنانية والعنصرية والطائفية، حين قال في كتابه (الصياغة الجديدة):
(ما دام عصرنا الحالي لا يضع الحب بمكان الكراهية، والأخوة بمكان الطبقية، وحسن الظن بدل سوء الظن، وحب الإنسان بما هو إنسان بدل الروابط الأنانية والأرضية ونحوها، والتعاون بدل التصارع، وأصالة الصحة ـ في عمل الإنسان وفي قوله ـ بدل أصالة الفساد، وأصالة البراءة حتى تثبت الجريمة بدل أصالة الشبهة، وأصالة الحرية في كل شيء بدل أصالة الكبت.. فلا خلاص للعالم من المشاكل).
خطوات ومعالجات مقترَحة
إذاً يقف العالم اليوم أمام حالة مرضية تكاد تكون مستعصية، ولم نرَ حتى اللحظة من يتصدى لمعالجة هذه الأمراض، بل نلاحظ إصرارا على مواصلة منهج الاحتكار والاستئثار، وإثارة الفتن، وإضعاف الدول الضعيفة أصلا، والسعي لنهب خيراتها بكل السبل المتاحة، وهذا يدلل على غباء مفرط للأقوياء، وكأنهم يطبقون المعادلة سيئة الصيت (لأعشْ أنا وليذهبْ الجميع إلى الجحيم)!!
لذلك لابد من وضع إستراتيجية عالمية، تعالج نقاط الضعف التي أشَّرها الإمام الشيرازي، ووصف العالم بسببها، بأنه عالم مريض، وهذه حقيقة لا يمكن الهروب منها أو مواصلة نكرانها، وهذه هي بعض أسبابها:
- التنمر العنصري: وهناك شواهد عديدة لا يمكن نكرانها، لاسيما ما يحدث في مجال إثارة الفتن، ومحاولات استضعاف الأقليات، واستمرار الإساءة للرموز الدينية، ثم الظهور أمام العالم بمظهر الوداعة.
- منهج التصادم وتأجيج الصراع: وهو أسلوب استدراج مسبق، يتبعهُ الأقوياء لتوريط العالم بحروب لا طائل منها، وتقليل فرص الحوار، كأسلوب ومنهج راسخ لحلّ الأزمات المختلفة.
- أنانية الفكر: وهي علّة ظاهرة أكدها الإمام الشيرازي حين قال بوضوح (الأزمات التي يعاني منها العالَم اليوم، سببُها عدم إنسانية الفكر).
كيف يتغير عالمنا، من عالم مريض، قائم على الظلم والغبن، إلى عالم صحيح أكثر عدلا وتوازنا؟؟
توجد أجوبة لهذا التساؤل الكبير، وضعها الإمام الشيرازي منذ عقود، عبر مقترحاته العملية الواضحة، وعبر نظريته المعروفة بـ (اللاعنف)، حيث يشكل هذا المنهج، حجر الزاوية، في نقل العالم، من قوانين (التصادم، العنصرية، الطبقية، الاستقواء)، إلى قيم جديدة مستقاة من منهل الفكر الإنساني.
توجد بدائل كثيرة متاحة أمام المعنيين بتغيير الواقع العالمي، وقد قدَّم الإمام الشيرازي، جملة من المقترحات العملية التي يمكن من خلالها، صنع توازن عالمي شامل، يحفظ للجميع كرامتهم، إذ لا توجد فائدة في الإبقاء على العالم متوترا، محتقنا، مهلهلا، وما على المعنيين، في المعسكر (الأقوى) سياسيا واقتصاديا، إلا المبادرة بطرح البدائل المناسبة عبر نظام دولي متوازن يطفئ التوترات، ويقضي على العنصرية، ويحد من الطبقية العالمية، ويقلص الفقر والمجاعات.
يقول الإمام الشيرازي:
(إذا تمكن الإنسان أن يدخل تحت مظلة الأنبياء عليهم السلام، ويجعل جذوره إنسانية لا عنصرية أو طائفية.. أو.. فعندئذٍ يسود الوئام والسلام، وتتبدل معامل صنع السلاح إلى معامل صنع الأغذية، ولا تجد ملايين البشر يتضورون جوعاً، كما لا تجد السجون المفتوحة، والحاجات المعطَّلة، ولا تجد بعض الناس يسكنون القصور الباذخة، بينما السواد الأكبر يسكنون الأكواخ ويعيشون نصف عراة).
قد تبدو معالجة أزمات العالم شبه مستحيلة، ولكن لا يوجد سبيل آخر أمامنا سوى البحث عن الحلول وتطبيقها، وهذا الهدف العظيم، يقع على عاتق البشرية كلّها، إلا أن الأولوية تقع على عاتق (الركب المتقدم)، فهو من يمتلك الإمكانيات المادية والمعنوية، لمعالجة عالمنا المريض، على أن تتوافر الأجواء والمستلزمات العلمية العملية لهذا العلاج.
اضف تعليق