وتبقى مهمة المسلمين وقادتهم في الحاضر من نخب سياسية ودينية وثقافية وغيرها، هي الاستشراف السليم والعميق لمبادئ الفكر الحسيني وأهداف النهضة الحسينية، وتغيير الواقع المؤلم للمسلمين، بل من المهام الرئيسة تغيير الواقع العالمي برمته، من خلال القراءة الصحيحة للفكر الحسيني ونشره وتطبيقه إسلاميا وعالميا...
يأتي التركيز المستمر على حتمية استشراف النهضة الحسينية وتطبيقها في الواقعين الإسلامي والعالمي، كردة فعل على ما يجري من أحداث سياسية مستمرة تمضي بالعالم كله إلى فرض الظلم والاحتكار والتمايز الطبقي، كواقع لا يمكن التخلص منه فيما يشبه بسياسة فرض الأمر الواقع، وتأتي النهضة الحسينية أيضا بمثابة العلاج الشافي لأمراض البشرية فيما لو فهمتها وتمسكت بها.
مناسبة محرم، وبدء عاشوراء سنويا مع انطلاق هذه المناسبة، تمثل فرصة مستدامة لنشر الفكر الحسيني وتكريس أهداف النهضة الحسينية، وهو عمل ضخم تشترك فيه فعاليات وطقوس عدة، تأتي في المقدمة منها إحياء مراسيم عاشوراء، كي تكون المنطلق الأعظم والأمثل لاستشراف أهداف الفكر الحسيني والعمل وفق هذه الأهداف على الصعيدين الإسلامي والعالمي.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يركّز في كتابه القيّم (الحسين مصباح الهدى) على (أن يكون المحرم منطلقاً مناسباً لإبلاغ أهداف الإمام الحسين –ع- إلى البشرية المتعطشة.. حيث أن الإسلام دين عالمي لإنقاذ جميع الناس من الظلمات إلى النور، وليس دين المسلمين فقط).
وبعد المتاهة التي حدثت على يد يزيد وظهرت بوادرها المنحرفة مع بداية العصر الأموي، كان لابد من إيقاف رحلة الانحدار نحو الهاوية، ووضع حد لما تعرَّض له الإسلام من تحريف متعمّد، وإخراج مساره عن السكة السليمة التي أرسى دعائمها الرسول الأكرم (ص)، وأتمّ فيها مكارم الأخلاق، لكن مؤشرات الانحراف بدأت من مؤتمر السقيفة والالتفاف على التوصيات النبوية.
فكانت النتيجة أن آلت أمور المسلمين إلى مرحلة غير مسبوقة من الظلم والفسق والجور على يد يزيد، مما استوجب إرجاء مبادئ الإسلام وتعاليمه إلى نصابها، وإنقاذ المسلمين مما يتعرضون له من حكم منحرف وحاكم جائر كان الطغيان سجيته والفسق سليقته، واللهو وإشاعة التفسخ والانحلال بين المسلمين ديدنه، فلم يكن أمام الحسين عليه السلام طريقا آخر، سوى طريق جدّه المصطفى وأبيه الكرّار، فامتطى طريق الثورة وإعادة الإسلام إلى السكة الصحيحة.
توهّج إشعاع الفكر الحسيني
الإمام الشيرازي يشير إلى ذلك في كتابه (رسالة عاشوراء)، ويؤكد بأن الهدف الأهم للإمام الحسين (ع) هو: (إحياء الإسلام، وإرجاع القرآن إلى الحياة، وهذا هو ما كان يستهدفه الإمام –ع- من نهضته وشهادته، وذلك لأن الإسلام الذين أنزله الله تعالى في كتابه، ونطق به قرآنه، وبلغ له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وضحى من أجله أهل البيت عليهم السلام، وخاصة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، هو الدين الكامل والقانون الشامل الذي باستطاعته في كل عصر وزمان أن يسعد الإنسان والمجتمع البشري ويضمن له التقدم والرقي والتطلع والازدهار).
هكذا توهَّج إشعاع النهضة الحسينية، فأزاح الظلام الأموي، وفتح الطريق جليا أمام القلوب النظيفة والنفوس المؤمنة، لكي تدافع عن حقها، وترفض الظلم بكل أنواعه، وتثور ضد الطغيان الذي مارسه يزيد ومن سبقه من الحكام الأمويين، ولتصبح هذه النهضة الفكرية الأخلاقية نبراسا للمسلمين كافة، بل لثوار العالم أجمع، فتفتح أمام سبل كسر الأغلال والتطلع إلى الحرية الضامنة لكرامة الإنسان.
وهكذا صارت مبادئ النهضة الحسينية فنارا يهتدي به المسلمون أينما كانوا، والبشرية أجمع، لهذا كان ولا يزال وسيبقى الحكام الطغاة في حالة خوف ورعب من مبادئ الفكر الحسيني وقدرته على توحيد الصفوف والكلمة لإزاحة العروش الظالمة وتدمير جبروتها أينما كانت.
لم تكن النهضة الحسينية ضرورة لمرحلة بعينها، ولم تنته الحاجة العالمية لها، إنها بداية شعلة الثورة التي انتصرت ولا تزال حتى عصرنا هذا لكينونة الإنسان وقيمته وحرمته ومنزلته الكريمة التي لا يجوز لحاكم طاغية أن يستهين بها، كما فعل يزيد الذي أسقط الأمة في أدران الشر، واستهتر بحقوق الناس، واستهان بالإسلام وانحرف به في طريق اللاعودة عن الرجس والانحلال.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه (قبس من شعاع الإمام الحسين ع):
(أراد الإمام الحسين -ع- أن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أُغرِقَتْ فيه إلى العز، وذلك عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم، وتسلط الظالمين من أمثال يزيد وأبيه وأمثالهم).
أثر الصفات القيادية على الأمة
فبقدر طبقات الظلام التي هيمنت على قلوب المسلمين، واليأس الذي حاق بنفوسهم، كان لابد من ثورة عظيمة لإعادة الثراء الأخلاقي الديني النبوي الذي أرسى دعائم العدالة الاجتماعية، وثبّت القيّم التكافلية العظيمة، وجعل من أمة كانت قابعة في قعر الاحتراب والتناحر والجهل، أمة تفوقّت على جميع أمم عصرها وبنت دولة عظمى نشرت الإسلام والسلام في العالم أجمع.
فأي قائد يمتلك هذه القدرة، وهذا الصبر، وهذه الصفات القيادية الإنسانية التي نسفت العادات المتخلفة العاجزة عن صيانة قيمة الإنسان، وأي قائد يمكنه أن يصنع من أمة مشتتة تقاتل نفسها، وتعاني من سبات دائم في حياض الجهل والتعقيد وشتى الأمراض القاتلة.
الإمام الحسين عليه السلام نشأ وترعرع بين يدي هذا القائد الأعظم، ونهل من مبادئه وعلمه وأخلاقه وقدرته على التغيير، فجاء الحسين عليه السلام ثائرا كجدّه، سار على طريقه، وانتفض على حاكم فاسد حرص على إفساد الناس، وعمل على تدمير معتقداتهم، وأفقدهم ثقتهم بأنفسهم، وحرَف الدين المحمدي عن مساره القويم، لتصبح أمة المسلمين في أسوأ حالاتها.
لقد قلب يزيد المعادلة، فصار الصحيح في الإسلام خاطئا في عهده، جميع القيم النبوية تمّ التجاوز عليها، وتضاعفت محاولات زعزعتها، فالواقع المضيء الذي كان سائدا إبان قادة الإسلام العِظام، بدءاً بالنبي الأكرم (ص)، نسفه الأمويون من الجذور، ليُجْهِز عليه يزيد بمجونه وفسقه وظلمه واستهتاره، فكان لابد من إعادة اعتبار للإسلام والمسلمين، وهي مهمة تتطلب قائدا من طراز خاص، نبويّ الجذور، علويّ التطلّع والشجاعة والإصرار، ليأتي الإمام الحسين عليه السلام ويعيد الإسلام إلى مساره ولتنهض الأمة من جديد.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله: (أراد الإمام الحسين -ع- أن يبثّ روح الإيمان والحق في روح الأمة لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول الله - ص-).
لهذا وجب علينا كمسلمين أن نستشرف أهدف النهضة الحسينية، ونستحضرها في تفاصيل حياتنا وعلاقاتنا، كما أننا مطالَبون بتوصيلها لمن يجهلها مكن الأمم الأخرى، فتصحيح السلوك وتدعيم القيم، والانتصار لحقوق الإنسان مسلما كان أو غيره، هو الهدف الأعظم للفكر الحسيني، وهو ما يجب أن يعرفه العالم كلّه.
لقد أعاد الإمام الحسين عليه السلام بنهضته الاعتبار للإنسانية كلها، وليس للمسلمين وحدهم، وكان هدفه كبح الفساد الأموي، وتخليص الأمة مما خطط له الأمويون لتدمير الإسلام والمسلمين، لقد ضعفت أخلاق الناس، وقلّت إنسانيتهم، وازدادت الضغائن، وانتعش الفسق، وازدهرت قيم الخداع، وتضاعفت السلوكيات التي لا تمت للإسلام بصلة، فجاءت ملحمة عاشوراء لتعيد الأمة إلى سابق عهدها وأخلاقها التي بناها جدّه الرسول الأكرم (ص).
فمن الأهداف المهمة للنهضة الحسينية كما يرى الإمام الشيرازي: (تصحيح سلوك الناس وتقويمه، بعد أن تلون سلوك الناس وأخلاقهم في ظل النظام الأموي بطابع العنف والاستبداد والوحشية والاستهتار بما لا يتناسب مع الخلق الإسلامي والإنساني، فأعاد الإمام (ع) بنهضته الشريفة مكارم الأخلاق التي بناها جده الكريم (ص) وقدمها إلى البشرية ودعا الناس للتخلق بها في كل مراحل الحياة).
وتبقى مهمة المسلمين وقادتهم في الحاضر من نخب سياسية ودينية وثقافية وغيرها، هي الاستشراف السليم والعميق لمبادئ الفكر الحسيني وأهداف النهضة الحسينية، وتغيير الواقع المؤلم للمسلمين، بل من المهام الرئيسة تغيير الواقع العالمي برمته، من خلال القراءة الصحيحة للفكر الحسيني ونشره وتطبيقه إسلاميا وعالميا.
اضف تعليق