يصرّ الإمام الشيرازي على الربط بين جودة الأحزاب ومدى ارتقاء المجتمع، فالحزب ينبع من البيئة الاجتماعية وما تتميز به من قيم وثقافة وأخلاق، وهذا ينعكس على مبادئ الأحزاب وأفكارها، ويحدد مدى نجاحها أو إخفاقها في دورها السياسي، وهذا يعني أن الأحزاب الصالحة سوف تعكس ذلك على المجتمع كله...
(إذا صلحتْ الأحزاب صلح المجتمع الكبير، ويصح العكس) الإمام الشيرازي.
وجود الأحزاب السياسية أمر جوهري ولا يمكن الاستغناء عنه في الأنظمة الديمقراطية، ويعرَّف الحزب السياسي، (بالإنجليزية: Political party) بأنه تنظيم اجتماعي دائم، قائم على مبادئ وأهداف مشتركة، بهدف الوصول إلى السلطة، ويضم مجموعة بشرية متجانسة في أفكارها، ويمارس مختلف النشاطات السياسية وفقا لبرنامج عام، لتحقيق أهدافه، وتوسيع قاعدته الشعبية على المستويات المحلية، والوطنية، والدولية.
وقد صنّف كلاوس فون بيمي الأحزاب الأوروبية إلى تسع عائلات، وصف فيها معظم الأحزاب. كما تمكن من ترتيب سبعة منهم من اليسار إلى اليمين: الشيوعي، والاشتراكي، والأخضر، والليبرالي، والديمقراطي المسيحي، والمحافظ والليبرتاري.
ميز علماء السياسة، بين أنواع مختلفة من الأحزاب السياسية التي تطورت عبر التاريخ.. وتشمل: حزب النخبة، والحزب الجماهيري، والحزب الشامل، وأحزاب الكارتل، والأحزاب المتخصصة.
كانت أحزاب النخبة السياسية، معنية بخوض الانتخابات، وقيدت نفوذ الأحزاب الأخرى حيث طُلِب منهم المساعدة في الحملات الانتخابية فقط. كما حاولت الأحزاب الجماهيرية، تجنيد أعضاء جدد كانوا مصدرًا لدخل الحزب، وكان يُتوقع منهم غالبًا نشر أيديولوجية الحزب، والمساعدة في الانتخابات.
المجتمع يتكون من مجموع الجماعات، فيصبح هو مجموعة الناس التي تشكل شبكة العلاقات المتبادلة فيما بينهم، ويشير المعنى العادي للمجتمع إلى مجموعة من الناس تعيش سوية في شكل منظّم وضمن جماعة منظمة. والمجتمعات أساس ترتكز عليه دراسة علوم الاجتماعيات. وهو مجموعة من الأفراد تعيش في موقع معين ترتبط فيما بينها بعلاقات ثقافية واجتماعية، يسعى كل واحد منهم لتحقيق المصالح والاحتياجات.
تعزى درجة نجاح المجتمع إلى مجموعة من الأسباب، أهمها بحسب المختصين طبيعة النظام السياسي الذي يقود الدولة، فإذا كان نظاما ديمقراطيا لابد أن تكون هنالك أحزاب سياسية تتنافس فيما بينها عبر أسلوب الانتخابات النزيهة، للوصول إلى السلطة، وأعضاء الحزب السياسي هم صنيعة المجتمع الأكبر، لأن الأفراد والجماعات بالنتيجة هم المجتمع بأسره، وصلاح الفرد يعني صلاح البنية الاجتماعية.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (شروط نجاح الجماعات):
(تتكون الجماعة من الأفراد، فيما يتكون المجتمع الكبير من الجماعات – من بينها الأحزاب والحركات-، وفي المحصلة إنْ صلحَ الفرد وكان بالمستوى اللائق في الإطار الفكري المناسب، صلحتْ الجماعة، لأنها ليست إلاّ أفراداً).
الأحزاب الناجحة وبناء الدولة المتقدمة
يصرّ الإمام الشيرازي على الربط بين جودة الأحزاب ومدى ارتقاء المجتمع، فالحزب ينبع من البيئة الاجتماعية وما تتميز به من قيم وثقافة وأخلاق، وهذا ينعكس على مبادئ الأحزاب وأفكارها، ويحدد مدى نجاحها أو إخفاقها في دورها السياسي، وهذا يعني أن الأحزاب الصالحة سوف تعكس ذلك على المجتمع كله.
كما أشار الإمام الشيرازي إلى ذلك في قوله:
(إذا صلحتْ الأحزاب صلح المجتمع الكبير، ويصح العكس، وإذا توافرت عند الفرد هذه المؤهلات كان أقرب إلى بلوغ أقصى قدرة تقوده إلى الهدف).
الحزب أو الجماعة تتكون من مجموعة أعضاء، وهؤلاء ينعكس نشاطهم ودورهم على نجاح أو فشل الحزب، لذلك على الحزبي أن يكون مثقفا واعيا ومدركا لأهمية دوره، ومدى تأثيره في إنجاز مهام حزبه أو فشله في ذلك، هذا يتعلق بقدرة الفرد، وانعكاس هذه القدرة على أداء الحزب في دوره السياسي ضمن إطار النظام الذي يقود الدولة والمجتمع.
عليه لابد أن يتحلى الفرد بمجموعة من الصفات التي لا يمكن التخلي عنها، منها بل وأهمها تحلي الحزبي بالهدوء والتوازن والتخلّص من شحنات الانفعال والعصبية غير المجدية، فلا فائدة من التعنت والإصرار غير المبرر على الخطأ، كما ينبغي التخلّص من تعمّد إثارة الفوضى، ومواصلة النقاش البيزنطي الذي لا يفضي إلى نتيجة واضحة، فمن شروط الحزبي الناجح وضوح الرؤية ومسك الأعصاب والتوازن والابتعاد عن إثارة التجاذبات الجانبية، لأنها تنتهي إلى تدمير قدرات الوصول إلى الأهداف المحدّدة.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(لابد لمن ينتمي للحزب أن يتحلى بالهدوء والصفاء والتوازن الفكري والعملي، لأن القلق والهياج والخلط بينهما خليقٌ بأن يجعل منه فاسداً مفسداً، فهو لا يبتعد عن القدرة فقط، بل يُسقط قدراته التي يصل عبرها إلى أهدافه).
هناك أعضاء في بعض الأحزاب لا يروق لهم الاتزان، بل يجدون أنفسهم في إثارة الفوضى، لكن الصحيح إذا وجد الحزبي نفسه غير قادر على قيادة نفسه والسيطرة عليه، ففي هذا الحالة لا يجدي سوى الانسحاب بسلام وترك الجدل والنقاش إلى وقت آخر، فالصراخ الأرعن سوف يسهم في إضاعة الوقت وتدمير الأهداف، وزرع بذور الشك والتذمر واللا ثقة بين الجميع.
لا يصح للسياسي أن يتعذّر بالمتاعب
الانسحاب وكف النقاش، والاعتزال الطوعي، سوف يساعد الآخرين على التفكير الهادئ السليم، ويقلل من فرص انتعاش الفوضى، بل يمنح الجميع متّسعا من الوقت لبلورة الأفكار التي تصب في صالح الحزب وصالح الدولة والمجتمع.
(أي عضو من أعضاء الحزب أو الجماعة إذا لاحظ في نفسه هياجاً لا يتمكن من كبحه، أو انفعالا في النقاش، عليه أن يعتزل بسلام، وليس بشدة ليهدّئ نفسه والآخرين، لأن الانعزال في هذه الحالة يمنح الإنسان الهدوء الذي يهيئ المناخ الملائم للتفكير والخروج السليم من المأزق).
هذه التفاصيل السلوكية داخل الأحزاب والجماعات تشكل حجر الزاوية في نجاحها، وتجعل من رؤيتها أكثر وضوحا، وأهدافها مرسومة، فالتوازن والهدوء وتجديد الأفكار المرحلية في الإطار الإستراتيجي، شروط لا يمكن إهمالها.
السياسي الحزبي الجاد في انتمائه والعارف والمؤمن بأهدافه، والساعي في إطار نشاطه الحزبي إلى تكريس بناء الدولة المؤسساتية، لا يصح له التخلي عن مبادئه هذه، ولا يجوز له التشبث بتبريرات لا تصمد أمام الأمانة تجاه الدولة والشعب، فمن المعروف للجميع أن الدولة المتقدمة لا يمكن أن تُبنى إلا بنظام ديمقراطي مستقر، ترسمه وتشكله أحزاب سياسية وطنية مؤمنة بأهدافها وأمينة على حماية الوطن وإسعاد الشعب وتأمين الحياة الحرة له.
حين يردد السياسي بأنه غير قادر على الإنجاز السياسي الناجع، ويظل يكرر مثل هذه الحجج والأقوال، ويحاول أن يجد لها التبريرات، فإنه بذلك قد يزرع بذور هذا العجز في أعماقه، لأنه مع مرور الوقت يصدّق بأنه عاجز وغير قادر على المشاركة الحزبية الديمقراطية الفعالة في بناء الدولة والمجتمع.
الإمام الراحل يقول حول هذه النقطة:
(لا يصح للسياسي القدير أن يتعذر بالمتاعب الكثيرة، والانشغال الذهني، أي أن ذهنه لا يستجيب له، أو لا يسعه العمل، فإن كل ذلك يوحي إلى النفس بما يقوله الإنسان، وينتهي به الأمر إلى الاعتقاد بصحة ما يقول).
زمن الشروط المهمة التي يجب توافرها في أعضاء الحزب، هو التحلي بالصبر في مواجهة المشاكل المختلفة، فالعمل الحزبي السليم ليس سهلا، وطريق النضال الحزبي ليس مفروشا بالورد، إنها معاناة كبيرة ومستمرة يواجهها العاملون في المعترك السياسي، فقد يواجهون عقبات كبرى ومشكلات مستعصية، الصبر هو السبيل الوحيد أمامهم لحلّها وعبورها.
صبر الحزبي يجب أن يكون علامة فارقة في حياته ومواجهته للعقبات، دعما لثبات النظام، وتقويته وتطويره، كي يكون قادرا على إدارة الدولة والسلطة بما يحقق تطلعات الشعب.
في المشهد السياسي العراقي اليوم، نحن بأمسّ الحاجة إلى أحزاب متبصرة، تفهم دورها وتحدد رؤيتها وتصقل أفكارها، وتربي أعضاءها على الإيمان والثبات والتوازن وكبح الانفعال، وجعل هدف بناء الدولة وحماية حقوق الشعب ضمن أولوياتها التي لا تحيد عنها.
يقول الإمام الشيرازي:
(الصبر على المشاكل والسير المتَّئِد نحو الهدف، لأن الصبر من أقوى سمات القدرة، قال سبحانه: (ولمن صبر وظفر أن ذلك من عزم الأمر)، والصبر ضمان لحفظ النظام ولحفظ الهدوء، ولتبصر العواقب ولمعرفة ارتباط الأشياء بعضها ببعض).
لنتخيّل ماذا يكون عليه الوضع السياسي في العراق، لو التزمت الأحزاب السياسية الناشطة فيه بهذه الأفكار والشروط التي بينها الإمام الشيرازي في أعلاه، إننا حتما سوف نقطف ثمار العمل الحزب السياسي الناجح بما يحقق نهوض الدولة العراقية، وثبات مؤسساتها الدستورية واستقلاليتها، لنصل إلى دولة متقدمة، وحقوق مضمونة، وشعب يعيش بأمن وسلام ورفاهية، كما تعيش شعوب الدول المتقدمة.
اضف تعليق