من أخطر النواقص التي ترافق حياة الإنسان ومساعيه في طريق الارتقاء، هو عجزه عن الاستفادة من أخطائه، فهناك من يجعل من زلّاته مصابيح تقوده نحو الصحيح، وهناك من يعجز عن ذلك لأسباب كثيرة أكبرها البلادة واللامبالاة، هذا النوع من البشر لن يتقدم خطوة في حياته، لأنه...
النجاح والفشل علامتان متناقضات تتواجدان في حياة الإنسان شاء أم أبى، لكنهما قد يجعلان حياته متميزة أو أقل من عاديّة، ومع ذلك لدى كثير من الشخصيات العظيمة كان الفشل محفّزهم للنجاح ومساعدهم على التميّز، هل يمكن أن يكون الفشل طريقا للنجاح؟
سؤال كثيراً ما دوَّخ الناس، لاسيما أولئك الذين يكون النجاح هدفهم في الحياة، فالساعي إلى النجاح يخشى الفشل بل يرعبه الفشل، وقد لا يُدرك بأن المهماز الذي يحركه نحو النجاح هو الفشل، فأنتَ طالما تحاول وتكدّ وتسعى فإنك ستواجه عقبات محسوبة وأخرى مباغِتة!
الإنسان في رحلة حياته الطويلة والمعقدة أحيانا، يواجه مجموعة من التجارب الشخصية أو الذاتية، تتراكم مع مرور الزمن، منهم من لا يترك هذه التجارب تمر فوق رؤوسهم كالسحاب، ومنهم من لا يعبأ بها، ولا يتنبّه لها، ولا يرى فيها خزيناً تجريبياً يعينه على مواصلة الرحلة بنجاح، فهناك من البشر من يعتبَر ويحتمي بتجاربه، وهناك من لا يعنيه هذا الأمر من قريب أو بعيد!.
لماذا يمكن الإفادة من تجاربنا، وكيف؟، الأفكار الذاتية المصنوعة في عقل الإنسان، لا تختلف عن الأفعال التي يقوم بها، إلا من حيث المعنى والمتجسّد في الواقع، لكنها معا تصنع شخصية الإنسان، وتبلور فكرهُ وسلوكه، وهذه التجارب الفكرية والعملية للإنسان، إذا قرّر استثمارها، فإنها ستكون منهلهُ لتطوير ذاته فكريا وعمليا، لسبب واضح جدا، فمن يوظف تجاربه في حياته، لن يكرر الخطأ الذي وقع فيه بالأمس، بل يمكنه تجنّب أخطاء أكبر وأكثر تعقيدا مما سبق.
هذا التوظيف الجيد للتجارب الذاتية، يجيده الأذكياء المبدعون المؤمنون بأنفسهم وقدراتهم، أولئك الذين لا تتكرر أخطاءَهم أو أنهم يجيدون استثمار أخطاءَهم، فمن لا ينسى تجاربه التي مرَّ بها، ومن يجعل منها ذخيرة دائمة للتصحيح، ومن يرى فيها مرآة تعرض له زلّاته وعثراته، فإنه لابد أن يمتلك أدوات التصحيح الفعالة لأفكاره وسلوكياته، مما يشكل له منطلقا متجددا للنجاح.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (العبرة سبيل النجاة): (للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان).
الإنسان يتميز عن سواه من المخلوقات، بميزة العقل والتذكّر، فربما يكون صاحب ذاكرة ألمعية متوقدة، تختزن كل ما يمر به من تجارب في حياته منذ اللحظات الأولى للوعي صعودا إلى المراحل العمرية اللاحقة، ومما هو مؤكّد أن كل إنسان سوف يمر بتجارب مختلفة في رحلته الحياتية الشاقة، والتي سوف تختلف من شخص إلى آخر، فمن يتحلى بالطموح سوف تكون كبواته وعقباته أكثر من ذلك الذي يركن إلى السكون والدِعة.
وكلما طمح الإنسان للأعلى ازدادت العقبات وتعددت الأخطاء، بعضها عادي بسيط، وبعضها عميق مختلف أو معقد وفيه خطورة أو استثنائية، وتبقى المفاضلة بين الناس قائمة على أساس من يحفظ تجاربه ويستثمرها لصالحه، وليس عيبا أن يخطئ الإنسان لكن العيب عندما يهمل تصحيح الخطأ ولا يستثمره كي يمضي قُدما إلى أمام.
لماذا يعجز الإنسان عن استثمار تجاربه؟
من أخطر النواقص التي ترافق حياة الإنسان ومساعيه في طريق الارتقاء، هو عجزه عن الاستفادة من أخطائه، فهناك من يجعل من زلّاته مصابيح تقوده نحو الصحيح، وهناك من يعجز عن ذلك لأسباب كثيرة أكبرها البلادة واللامبالاة، هذا النوع من البشر لن يتقدم خطوة في حياته، لأنه عاجز عن استثمار تجاربه، أو غير راغب في ذلك نتيجة لخلل في تربيته وبيئته، أي أن الخلل ليس في قدرات الشخص لوحده، بل المحيط العائلي المجتمعي الأول قد يكون هو السبب في ضعفه وفشله، ومع ذلك عليه الانتباه إلى أنه المسؤول الأول عن نفسه.
وهنالك شخص من طراز آخ لا يليق به سوى التميّز فهو متوقد الذهن ألمعيّ الذاكرة، وهو الذي يكون مستثمرا ماهرا لتجاربه، جاعلا منها أداة خلاقة تدفع به في طريق التقدم والصعود إلى القمة، لذلك نجد الإنسان الناجح في المجتمع، هو ذلك الذي يقلل أخطاءه إلى أقصى درجة ممكنة، ويعمل بجدية كبيرة على عدم تكرار ما يقع فيه من أخطاء فكرية أو سلوكية عملية.
الإمام الشيرازي يؤكد على أن الإنسان: (يمر في حياته العملية بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل. فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: من حفظ التجارب أصابت أفعاله).
حركتنا في المجتمع تفرض علينا شروط لكي ننجح، أو الشروط أن ننجح في كسب الناس، وتقليل المصادمات إلى أدنى حد ممكن، فمن أهم تجارب الإنسان وأكثرها تكرارا في حياته، علاقاته الاجتماعية، كونه يعيش في مجتمع متعدد الأمزجة والخيارات والاتجاهات، إذا كان ذا قدرة على الاعتبار والاستفادة من التجارب السابقة، فإنه سيكون متميزا وذا شخصية مقرَّبة ومقبولة من الجميع.
هذا النوع من العقول يعي حركته في المجتمع ويمتلك قدرة كسب الآخرين، لذا فهو يجعل من احترامه للآخرين معبَرا إلى قلوبهم، فيكسب ودّهم، وهذا النوع من الأشخاص غالبا ما يكون ذا قدرة على الانفتاح المستقبلي، ومعرفة بما سيحدث، وقراءة مقاربة لما سيحدث في المستقبل، مع قدرة على التنبؤ والاستنتاج، وهكذا سيكون محميا من الزلل، لأنه هضم النتائج مسبقا من تجاربه التي مرّ بها وحفظها جيدا، وقرر أن لا يقع بها مرة أخرى.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على أن الشخص: (الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائج مرضية من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل، وهذه حالة بسيطة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المطبات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً).
كيف تستفيد من نقد الآخرين لك؟
النقد الاجتماعي كما يصفه المختصون، هو تقييم النشاط البشري، وتأشير المزايا والهنّات معا، فهناك شخص كثير النجاحات، وهناك من يفشل كثيرا ويكرر الفشل!!، كيف نصف الإنسان الذي يكرِّر أخطاءهُ؟، وهل يوجد هكذا أشخاص بالفعل في حياتنا ومجتمعاتنا؟
البيئة الاجتماعية يمكن أن تقدّم لنا مثل هذه النماذج البلهاء، فهؤلاء قد لا يمتلكون ذاكرة تحفظ لهم ما حدث قبل ساعة أو يوم، وإذا حفظت ذلك، فإن حامل هذه الذاكرة لا تعنيه الأحداث التي مرت به، وهذا غباء ما بعده غباء، معناه أن هذا الإنسان لا تعنيه تجاربه، ولا تجارب الآخرين، وإنه مخلوق للأكل والشرب واللهو والنوم، أما المستقبل والتميّز والتطور، فهذه مسميات ومعانٍ لا تعنيه ولا يعرفها أصلاً.
من المعيب أن يتواجد مثل هؤلاء الأفراد الفاشلون في المجتمع، وهذا العيب يقف وراؤه سببان، الأول فردي له علاقة بالشخص نفسه، والآخر مجتمعي يتحمله المجتمع، حين ينتج فردا عاجزا لا دور له حتى في حياته أو أسرته، فكيف إذا تعلّق الأمر بدوره تجاه الآخرين أو المجتمع، إنه لا يساهم في بناء المجتمع، بل عاجز عن بناء نفسه، وهذا يضر بالشخص نفسه، والإساءة الأكثر سوف تُلحَق بالمحيط المجتمعي الأوسع، حين تتحول الطاقات الفردية إلى صفر على الشمال بسبب عجزها.
توجد مسؤوليتان في هذا الجانب، الأولى فردية تعود على الشخص نفسه، والثانية لها علاقة بالبيئة المجتمعية، وفي كل الحالات ليس أمام الإنسان إلا الاستفادة من تجاربه وأخطائه، ودور الجهات ذات العلاقة أن تقدم التدريب اللازم والتوجيه والتعليم المطلوب، حتى يكتسب الأفراد القدرة النموذجية على تحويل الفشل إلى نجاح.
الإمام الشيرازي يقول: (الإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها ثانية ولا يصاب بمثلها في المستقبل).
وتبقى مسؤولية النجاح والفشل ذات طابع فردي أولا، لكن المجتمع لا يُعفى من مسؤوليته إزاء الأفراد، فحين يتواءم الجهد الفردي والجمعي، في تطوير الفرد وفتح الأبواب الواسعة أمام قدراته ومواهبه ومؤهلاته، فإن النجاح والتميّز سوف يكون مرافقا له ومن أهم مزاياه، وهذه نتيجة لا يمكن بلوغها ما لم يتقن الإنسان عملية تحويل الفشل إلى نجاح.
اضف تعليق