هذا الهدف الكبير الذي سعى إليها المسلمون في جميع الدول ذات الأنظمة الإسلامية، ومن بينها دولة العراق، يلزم الحاكم التنفيذي في العراق الكاظمي بالتصدي لمسؤولية القيادة الرشيدة، وتعويض العراقيين عمّا تسببت به حكومات الهدر السابقة، من أضرار جسيمة للشعب العراقي، وهذا الهدف الاستثنائي، يتطلّب حاكما استثنائيا وحكومة متميزة...
بعد مخاض شهور طويلة، استطاعت الطبقة السياسية في العراق أن تنتهي من الاتفاق على وزارة جديدة، حيث تم التصويت في مجلس النواب على رئيس وزراء جديد (مصطفى الكاظمي)، وكابينة وزارية مكتملة، بعد أن تم تمرير سبع وزارات مؤجّلة يوم السبت الماضي، وها أن العراق يصل إلى سلطة تنفيذيّة مصوَّت عليها، بعد شهور من المصادمات بين الكتل والأحزاب لأسباب بات يعرفها القاصي والداني.
الحاكم التنفيذي للعراق اليوم هو رئيس الوزراء المنتخَب حديثا (مصطفى الكاظمي)، وهذا يلقي على عاتقه مسؤولية جسيمة، تختلف عن مسؤوليات الذين سبقوه إلى هذا المنصب في الحكومات السابقة، إنه يقف اليوم إزاء مسؤولية من طراز خاص، أوجبتها وفرضتها أحداث جسام مرّ بها العراق.
ونعني بها سلسلة مظاهرات الأول من تشرين الماضي، وما يترتب عليها من مخرجات تختلف كليّا عما سبقها من احتجاجات ومطالبات، تطالب بأهمية بل وحتمية التغيير في إطار بناء دولة العدالة الاجتماعية، وإقامة وتثبيت الحكم اللّافردي الضامن لحماية الحريات والحقوق.
هذا الهدف الكبير الذي سعى إليها المسلمون في جميع الدول ذات الأنظمة الإسلامية، ومن بينها دولة العراق، يلزم الحاكم التنفيذي في العراق (الكاظمي) بالتصدي لمسؤولية القيادة الرشيدة، وتعويض العراقيين عمّا تسببت به حكومات (الهدر) السابقة، من أضرار جسيمة للشعب العراقي، وهذا الهدف الاستثنائي، يتطلّب حاكما استثنائيا وحكومة متميزة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، تحدّث عن هذا النوع من الحكام القادرين على إحداث التغيير اللازم، القادر على بناء دولة (العدالة الاجتماعية) التي تضمن للجميع حقوقهم وحرياتهم، وتشيع سياسة العدل وتكافؤ الفرص، وتضاعف فرص التقدم في ظل نظام سياسي عادل متعدد يقصي التفرد السلطوي، ويحدّد الصلاحيات ويضمن للحاكم قدرة (دستورية) للنهوض بالدولة، وتنظيم القدرات والخبرات ومكافحة الهدر بالثروات الطبيعية والبشرية.
تحقيق هذه القضايا مشروط بطراز خاص من القادة، هؤلاء القادة عليهم أن يتحلّوا بصفات وقدرات خاصة، تؤهلهم للقيام بالخطوات الصحيحة لبناء دولة العدالة الاجتماعية، وفي حال توافر الشروط والصفات والإجراءات الصحيحة من قِبَل الحاكم التنفيذي الجديد في العراق، فإننا وفقا للشروط التي حدَّدها الإمام الشيرازي في كتابه القيم (الصياغة الجديدة) للحاكم، سوف نفوز بدولة متقدمة يقودها نظام سياسي قائم على أسس التعددية الضامنة للحريات والحقوق والعدالة.
ماهي أولويات الحاكم التنفيذي؟
حدَّد الإمام صفات وأولويات ينبغي أن يتحلى بها الحاكم التنفيذي، حتى يكون أهلا للمسؤولية الكبيرة التي أعلن نفسه متصدّيا لها، وقبل بالتحدي الكبير وألزم نفسه بمواجهة المهام الجسيمة والملفات المعقدة والخطيرة التي ستواجههُ وهو يحث الخطى ويبلور المساعي الاستثنائية للنهوض بالدولة العراقية، ومن أوائل هذه الشروط التي حددها الإمام الشيرازي:
هي (يجب أن لا يكون تفكير – الحاكم- مادياً يبحث عن المغانم).
فإذا ما توافر هذا الشرط في الحاكم، سوف يكون قادرا على ردع نفسه أولا وحمايتها من الانزلاق في معضلة هدر الثروات، وهذا ما لم ينجح فيه الحكام التنفيذيون الين سبقوه، فإذا نجح الحاكم في تخطّي هذه العقبة، أصبح قادرا على إنجاز ما لم يستطع عليه الذين سبقوه.
النجاح في هذا الشرط الذي أكده الإمام الشيرازي لدى أي حاكم تنفيذي، سوف يجعله قادرا على مساعدة شعبه كي يكون مهيّأً للنهوض والانتصار في معركة البناء، وهذا بالطبع يتطلّب إعدادا وتخطيطا وتنظيما مسبقا، وإن كان الحاكم قادرا على مثل هذه الإجراءات الإعدادية المسبقة، فإن النجاح سوف يكون حليفه، لاسيما حين يكون الحكام والشعب يداً بيد، لكن زمام المبادرة موجود عند الحاكم.
الإمام الشيرازي ينصح الحاكم على مساعدة (الشعب كي يعد نفسه للانتصار من الآن، فهذا أفضل من الإعداد بعد عشر سنوات، لأن الإعداد اليوم سوف يعطي النتائج بعد فترة زمنية لا تتعدى فترة الإعداد بعد عشر سنوات).
ولابد للحاكم أن يعي قضية بالغة الأهمية، وهي تتعلق بالشعارات التي غالبا ما يطلقها الحكام لكسب ودّ وتأييد شعوبهم، فالشعارات الخالية من الصدق والتخطيط المسبق للتنفيذ، لن تصب في صالح الحاكم ولا في صالح الشعب، لذلك يجب أن تًطلق الشعارات والعهود بموازاة الإعداد النفسي للشعب، مع وضع الخطط والتنظيم اللازم لتطوير شخصية الشعب، وجعله قادرا على النهوض بمهام التطوّر.
لذلك ينبّه الإمام الشيرازي الحاكم ويطالبه بأن يعي ويفهم: (بأن الشعارات والعواطف لا تكفي، فمرحلة الشعارات يجب أن ترافق مرحلة الإعداد النفسي والجسدي والتنظيمي لشخصية الفرد والأمة).
مهمة الحاكم تربوية أيضا، فهو وحده لن يكون قادرا على إنجاز ما يعد به، عليه أن يسعى لمساندة الشعب له، وعليه أيضا أن يطلق برامج عملية تنظيمية تساعد في نشر القيم والمفاهيم التي تدفع بالشعب للتمسك بالقيم، وتوظيفها في حياته العملية وعلاقاته الاجتماعية حتى يكون هناك تواؤما وتجانسا بين جهود (الحاكم التنفيذي) في إطار غرس القيم ورسوخها اجتماعيا، وبين تطلعات الشعب لبناء الدولة والحكم السديد.
مسؤولية الحاكم عن إيقاف الهدر
الإمام الشيرازي يقول في إشارة إلى قادة الشعب: (لو أننا نربي أنفسنا ومجتمعنا على المفاهيم والقيم السليمة، فإننا سوف نجني ثمرة هذه التربية في القريب العاجل إن شاء الله تعالى).
وطالما أن الحاكم يمتلك الصلاحيات التي من شأنها تطوير المجتمع، وبإمكانه وضع قدرات الجميع في إطار التقدم، وتوظيف الثروات في الإنتاج المضمون، وحمايتها من الإهدار المتعمَّد أو غير المقصود، فإنه ملزم باتخاذ كل الإجراءات الجادة في هذا المجال، وحينئذ سوف يتم قطف الثمار ويتم إنجاز الطموحات والأهداف.
وفي حال أن يتوجّه الحاكم وحكومته في المسعى الجاد، وتكون نواياه صادقة، ويربأ بنفسه بعيدا عن الضعف، ويسمو نحو المعالي، فإنه سوف يجد أن كدحه وسعيه في هذا الاتجاه مدعوما من الله تعالى الذي يحب الكادحين المخلصين لأنفسهم ولغيرهم.
القائد أو الحاكم الذي يعمل جادا لإنقاذ شعبه من الفقر والجهل، وهو قادر على ذلك بسبب الصلاحيات الهائلة التي يمتلكها (دستوريا)، سوف يكون مؤّيدا ويجد المساندة من شعبه.
لكن يجب أن يكون الحاكم هو المبادِر الأول الذي يحث الناس على النهوض والتزام الخلق الرفيع والتمسك بالقيم، وفي نفس الوقت يمدّهم بالعزم والتنظيم وانتهاج العلم وتنظيم الخبرات والقدرات والمؤهلات سبيلا إلى بناء الدولة والحكم.
الإمام الشيرازي يؤكّد ذلك حين يقول (إن القادة بالعمل الجاد والإعداد المستمر لن تخيب آمالهم وآمالنا وطموحاتنا أيضا، والله عز وجل مع الذين يكدحون في هذه الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم وتحكيم مبادئهم الخيرة).
قد تكون فرصة بلوغ سدّة الحكم نادرة، وقد لا تتكرر، هناك من يجعل منها فرصة لاقتناص الفرص المادية والذهاب في طريق جمع المغانم، والحصول على الجاه والنفوذ، واكتناز الأموال، يمكن لمن يصل إلى منصة الحكم التنفيذي أن يحصل على كل هذه المغريات والامتيازات، لكنها مكاسب لن تدوم لأنها مادية زائلة.
ما يبقى هو ما ينجزه الحاكم لشعبه على طريق التطور، وصنع حياة تليق بقيمة الإنسان، لاسيما إذا كان يعيش في بلد ثري ممتلئ بالثروات الطبيعية المدعومة برأس مال بشري حيوي.
لكن يبقى سعي الحاكم هباءً منثورا، إذا بقيَ في إطار التمنيات، وغابت الإرادة والتنظيم والتخطيط عنه وعن حكومته، يشير إلى ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
الحاكم (لا يستطيع أن يصنع الدولة الناجحة بالتمنيات، وإنما يكون صنعها وبناء الحكم التعددي بالمساعي والعمل الجاد من أجل بلوغ الأهداف المرسومة).
فرصة الوصول لسدة الحكم نادرة، وفرصة بناء دولة العدالة الاجتماعية نادرة أيضا، لكنها تبقى مرتبطة بشخص الحاكم العادل الناجح الذكي القوي، صاحب العقلية المرنة الناضجة وحامل القيم الكريمة، القادة الخالدون هم أولئك الذين ترفّعوا فوق المغانم المادية، وبنو الدولة العادلة، وساعدوا شعوبهم على النهوض والعيش بكرامة وتطوّر وسلام.
اضف تعليق