الجميع يعرف أهمية القضاء في تنظيم حياة الناس، بل تنظيم العلاقات في العالم أجمع، لذا على جميع المهتمين ومن يعنيهم هذا الأمر الإطلاع على تجربة الإمام علي القضائية، بشكل دقيق ومفصّل، حتى يتسنى لقضائنا الحالي، تصحيح ما هو خاطئ في النصوص الوضعية أو في التطبيق واعتماد السمات والصفات والطرائق...
للقضاء دور أول في إحقاق الحق ونشر العدل وإنصاف الناس وحماية ممتلكاتهم وحقوقهم كافة، لذلك وُصف القضاء بأنه نظام الحكم في دولة، وتتولى السلطة القضائية شؤونه. وقديماً كانت هذه السلطة تُدار على يد الرسل ورجال الدين وكانت تطبق الشرائع السماوية، أما في وقتنا الحالي، فتُدار على يد القضاة الذين يتم اختيارهم من بين دارسي القانون ويطبقون القانون الوضعي.
القاضي هو من يحقق العدل في الأرض، ويُختار وفق معايير خاصة تتفق مع هذه المسؤولية المهمة الملقاة على عاتقه. والقضاء يُطلق على أحد المصادر التفسيرية للقانون. بمعنى أنه من المصادر المفسرة له. أما السلطة القضائية هي سلطة الفصل في المنازعات المعروضة أمامها. وهي ثالث سلطات الدولة، ويشاركها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وهي فرع الدولة المسؤول عن التفسير الرسمي للقوانين التي يسنها البرلمان وتنفذها الحكومة. وهي المسؤولة عن القضاء والمحاكم في الدولة ومسؤولة عن تحقيق العدالة. كما أنها مسؤولة عن مسيرة وتقاليد القضاء في الدولة ومصداقية القوانين التي تطبقها.
الإمام علي عليه السلام وسمَ القضاء بأرقى الصفات، حين كان يقضي بين الناس، ويلجأ له المظلومون، ويسعى إليه كبار القادة والوجهاء، لاسيما عندما تنغلق أمامهم أبواب الحلول القضائية، ومن السمات المهمة التي أضفاها الإمام علي عليه السلام على القضاء الإسلامي، المعالجة الدقيقة واللطف واعتماد روح النص ما جعل السماحة صفة مهمة من صفاته، وهذا ما جعل القضاء قادرا على معالجة المشاكل المعقدة بطريقة جذرية.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه عن حياة وسيرة (الإمام علي عليه السلام):
(يتميّز القضاء الإسلامي عن غيره بالدقة الفائقة إلى جانب السماحة والمعالجة للمشاكل معالجة جذرية).
ويؤكد الإمام الشيرازي على هذه الصفات التي تميّز القضاء الإسلامي عن سواه، ويدعو من تحيط به الظنون ويشكك في ذلك، أو يطالب بالشواهد والأدلة، يدعوه إلى مراجعة كتب الفقه في باب القضاء، حتى يتسنى له الوصول إلى الحقائق التي لا يطولها الغبار أو الزيف، فيقول الإمام الشيرازي: (يتضح تميّز القضاء الإسلامي لكل من يراجع كتب الفقه في باب القضاء).
ضعف السلطة القضائية في الدول الإسلامية
لكن مع كل هذه المزايا، والدروس والعبر والتجارب التي تمخّض عنها القضاء الإسلامي، لاسيما التجربة القضائية للإمام علي عليه السلام، نجد المسلمين أصبحوا في عصرنا الراهن عرضة للتأثر بالقوانين الوضعية الغربية وغيرها، مما تسبب في إلحاق الضرر الكبير في سمعة القضاء في الدول الإسلامية.
وحين يصبح القضاء مشوّها ضعيفا، لأسباب معروفة منها عدم الدقة والارتجال، والتمسك الحاد بالنص الحرفي للفقرة القانونية، وإغفال السماحة، وهو ما يشوب العديد من النصوص القانونية الوضعية، فهذا يعني مجافاة وتناقض مع السمات التي أحاطت بالقضاء الإسلامي خصوصا ما يتعلق بتجربة الإمام علي عليه السلام.
لذلك يمكن أن تتحول عيشة الناس إلى الضنك، بسبب التناقض والتجافي مع الصفات المهمة التي يشتمل عليها القضاء الإسلامي، مما يؤدي ذلك إلى مضاعفة المشكلات الاجتماعية وغيرها، فالمطلوب هو دارسة السيرة القضائية للإمام علي عليه السلام واستخلاص التجارب والنصوص التي عالج من خلالها أعقد الخلافات بين الأطراف المتصارعة آنذاك، أما الإعراض عن هذه التجربة والتمسك بنصوص وضعية هجينة أو دخيلة، فهذا يحيل العيش إلى ما يشبه الغابة التي يسري فيها قانون (القوي يأكل الضعيف!).
الإمام الشيرازي يقول:
(ممّا يؤسف له حقاً أنّ العالم الإسلامي أعرض عن أحكام القضاء الإسلامي وتمسك بقوانين زادت من مشاكل المسلمين وعكرت عليهم صفو عيشهم وجعلتهم يعيشون معيشة ضنكاً).
ويرى الإمام الشيرازي أن سبب الخلل في القضاء بالدول الإسلامية يعود إلى عدم الإطلاع على المبادئ والسنن التي اعتمدها أئمة أهل البيت في معالجة مشكلات الناس في عهودهم، وهي في مجملها تجارب قضاء ثرية، تم من خلالها بناء منظومة قيم أخلاقية أنصفت الجميع، وأعطت لكل ذي حق حقه.
في المقدمة منها السيرة والتجربة القضائية للإمام علي عليه السلام، حيث لا تزال المجالس بمختلف مسمياتها، مثلا المجالس العائلية أو مجالس العزاء ومختلف التجمعات، حتى في بعض المقاهي يتم تداول القصص والحكايات التي تتضمن طرائق الحكم على هذه المشكلة أو تلك، وبعضها فيه طرافة ولطافة وتسامح مشفوع بالحكمة والعقل الراجح والمنطق الذي يجبر الطرف المعتدي على الرضوخ للنتيجة التي تكون ضده ويقبل بها لقوة الحجة واللطف والمنطق معاً.
يقول الإمام الشيرازي:
(أساس المشكلة يكمن في ترك المسلمين لقضاة الحق وهم الأئمة الطاهرون عليهم السلام الذين نص عليهم الرسول صلى الله عليه وآله، خاصة أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه رسول الله: أقضاكم علي).
الامام علي قاضياً
حين يكون القاضي عادلا، عارفا لمهمته، منصفا للجميع من دون تأثير أو تحيّز، فإنه سوف يكون قاضيا شهيرا، يحبه حتى أعداؤه، ويثق به الجميع، وهذا ما حدث مع الإمام علي عليه السلام، الذي كان يقضي بين الناس بالعدل والعقل والإنصاف والسماحة، وهي صفات لا تتمسك بالنص القانوني الصرف.
لهذا بقي الإمام علي عليه السلام قاضيا يلجأ إليه الجميع كي يقضي بينهم، وكانت هناك مشكلات تستعصي على الحل، لدرجة أن الجميع يعجز عن إيجاد المخرج السليم الذي يحق الحق، ولا يلحق الظلم بأحد الأطراف، في مثل هذه القضايا الشائكة تبرز الحاجة الملحّة إلى قاضٍ منصف عادل حكيم لطيف، وهذه الصفات لا يتحصّل عليها إلا الإمام علي عليه السلام.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله:
(لقد رجع إلى الإمام علي عليه السلام في قضائه حتى من خالفه وغصب حقه، وقد عُرف عن ابن الخطاب مقولته المشهورة: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن) وقوله: (لولا علي لهلك عمر).
هذه التجربة القضائية الغنية للإمام علي عليه السلام، لا تزال قيد الإخفاء لأسباب عديدة، منها الإهمال المقصود وغير المقصود، وضعف الترويج، والحقد غير المبرّر، وغياب الجهد الإعلامي المنظّم لإظهار ونشر هذه التجربة، فعالم اليوم حتى غير المسلمين يحتاج إلى منظومة قضائية راجحة وعادلة، لاسيما أن الظلم بات العلامة الأوضح لواقعنا.
هذا يجعل التعريف بالتجربة القضائية للإمام علي عليه السلام أمرا بالغ الأهمية، حتى المسلمون أنفسهم لا يزالون يعانون من القضاء غير العادل أو الضعيف في نصوصه أو في تطبيقه، العالم كذلك يعاني من هذا النقص، وهذا يستدعي منا كمسلمين أن نعرّف بتجربة الإمام عليه السلام، نعرّف العالم كله بها، وقبل العالم علينا أن نهضمها جيدا ونطبقها في تنظيم حياتنا.
يقول الإمام الشيرازي:
(ممّا يؤسف له حقاً أنّ العالم اليوم غير مطلع على قضاء أمير المؤمنين عليه السلام، فما أحوجنا إلى إيصال ذلك للعالم وتعريفهم به).
الشواهد والتجارب والقصص عن قضاء الإمام علي عليه السلام كثيرة، تضمها بطون الكتب التاريخية المختصة، وكذلك القصص الشفاهية المدعومة بالشواهد والأدلة القاطعة، ويمكن للمختص والمهتم الإطلاع عليها واعتمادها كدليل أو خارطة طريق لتطبيق قضاء عادل راجح قوي منصف ولطيف.
يؤكد ذلك الإمام الشيرازي حين يقول:
(لو أردنا ذكر شواهد على القضاء الإسلامي وأفضليته الذي طبّقه أمير المؤمنين عليه السلام، وأنه كيف كان يصل إلى الحق بلطائف الكلام ودقة النظر لطال بنا المقام).
في خلاصة الكلام، الجميع يعرف أهمية القضاء في تنظيم حياة الناس، بل تنظيم العلاقات في العالم أجمع، لذا على جميع المهتمين ومن يعنيهم هذا الأمر الإطلاع على تجربة الإمام علي القضائية، بشكل دقيق ومفصّل، حتى يتسنى لقضائنا الحالي، تصحيح ما هو خاطئ في النصوص الوضعية أو في التطبيق واعتماد السمات والصفات والطرائق التي جعلت من الإمام علي عليه السلام قاضياً لا يتكرّر.
اضف تعليق