نحن بحاجة إلى رأي عام مثقف وواع لمواجهة الأزمات، لاسيما أننا نمر اليوم بأزمة شائكة، بل بالغة التعقيد، مظهرها صحي لكن تداعياتها أدخلت العالم كلّه في حالة سبات شبه، ما أثر على كل مقومات الحياة في العالم أجمع، وهذا ما يدعو دول وشعوب العالم أجمع أن تتكاتف وتتكافل للخروج...
حين يتعرض فرد أو جماعة إلى أزمة خطيرة، عليه أن يتخذ إجراءات فورية، بعضها مادي ومنها ما هو خاضع للتفكير، كذلك هنالك ردود أفعال غريزية قد تبدر من الناس بعيدا عن التحكم بها، ولكن في كل الأحوال، إذا واجه الفرد أو الجماعة أزمة خارج سياق التوقّع، لابد من صنع رأي عام يدفع باتجاه مواجهة الأزمة بشكل منظّم ومدروس حتى يمكن الحد من خطورتها وتداعياتها
والرأي العام هنا يأتي كنوع من التدبّر والتنبّه لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالقضاء على الأزمة أو الحد من نتائجها، ويعدّ الرأي العام بوجه عام، اعتقادًا ذاتيًا ويكون نتيجة لـ مشاعر أو تفسير لـ الحقائق. ويمكن تأييد الرأي، على الرغم من أنه يمكن عرض آراء معارضة يدعمها مجموعة الحقائق نفسها.
ونادرًا ما تتغير الآراء دون تقديم حُجج جديدة. ويمكن أن يكون الرأي مسببًا؛ حيث إن تأييد أحد الآراء عن طريق الحقائق أفضل من تأييد رأي آخر عن طريق تحليل المناقشات المؤيدة له. وفي حالة الاستخدام العرضي، يمكن أن ينشأ مصطلح الرأي نتيجة لـ منظور الفرد وفهمه ومشاعره الخاصة واعتقاداته ورغباته. وقد يشير الرأي إلى معلومات لا تستند إلى دليل، على العكس من المعرفة والواقع القائم، ولذلك لابد أن تسود ثقافة رأي واضحة تستند إلى الحقائق التامة وتبتعد كليّا عن التخمينات أو الدعيات التي لا أساس لها من الحقيقة.
ويصعب على مجتمع أو أمة مواجهة كارثة طبيعية أو بشرية، أو أية أزمة كانت، ما لم تمتلك مقومات المواجهة وفي المقدمة منها، العقول الراجحة، والعقول المكتملة، والعلم الذي يمنح الجميع القدرة على اتخاذ التدابير السليمة، ويساعد العلم والثقافة والعقول الراجحة على توحيد الجهود وتعميق الأفعال الصحيحة لإدامة سبل المواجهة والتعامل مع الأزمات بالأخص غير المحسوبة كالكوارث والجائحات.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الموسوم بـ (الرأي العام ودوره في المجتمع):
(لكي نعيش حياتنا الإنسانية بحرية مشروعة لابد من أن نكرس جهودنا، وبهمة عالية من أجل تحصيل مقومات التقدم والرقي، ومنها الاستفادة من الرأي العام في صالح نشر الوعي والثقافة والتعامل الصحيح مع الأزمات العصيبة).
تعزيز ثقافة التكافل الاجتماعي
ومن سبل وطرائق وإجراءات مواجهة الجائحات والأزمات الأخطر، نشر وتعميق ثقافة التكافل الاجتماعي، وهذه الثقافة يصعب غرسها في النفوس وتحويلها إلى ثقافة سلوك يومي دائمي، إذا لم يتم ذلك عبر تعزيز الرأي العام وجعله داعيا لهذه الثقافة ومشجعا لها، بل ينبغي أن يكون الرأي العام مكرّسا في هذا الاتجاه.
فإن بدا الجهد الفردي في معاونة الآخرين ضئيلا، وإن كان جهده قليلا فإن حاصل جمع التكافل الفردي سوف ينعش هذه الثقافة في عموم شرائح المجتمع، الجميع يندفع للمشاركة في التعاون وتقديم الدعم ومن حاصل المجموع نكون قد وصلنا إلى نتيجة مشرفة في منازلة الكوارث والأزمات خصوصا الطبيعية منها.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
لابد من (توجيه الرأي والعلم لصالح نشر ثقافة التكافل الاجتماعي، فلا سبيل لمواجهة الأزمات والكوارث إلا بهذا النوع من الوعي والسلوك).
ولكن لا يكفي أن يكون التعاضد فرديا، بل لابد أن تنتقل هذه الثقافة من الفردي إلى الجماعي، وهذا لن يحدث ما لم يتم تحشيد رأي عام مناصر واضح وقوي، يدعو فيه الجميع إلى التعاون والتكافل، كلٌ بحسب إمكانياته حتى لو كانت قليلة أو صغيرة بالمقارنة مع الآخرين، لأن رغيف الخبز الواحد يمكن أن يصبح أرغفة كثيرة إذا أصبحت ثقافة التكافل سلوك يومي معتاد.
نحتاج دائما إلى رأي عام ضد الوباء، والظلم، والجهل، والفقر، فهذه كلها أوبئة تصيب الدول والمجتمعات في الصميم، وهذا يستدعي صنع رأي عام يتبلور مع مرور الزمن بوساطة وسائل كثيرة وعديدة يجب أن استخدمها كالإعلام ووسائل التواصل لدفع الرأي العام باتجاه المواجهة الصحيح.
فالرأي العام كما يراه الإمام الشيرازي هو: (موقف جماعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً.. أو ما أشبه ذلك).
ركائز ومقومات الرأي العام
فإذا غابت ثقافة التكافل والتعاون بين الناس، تكون المواقف سلبية وتحمل معها أضرارا وتداعيات كبيرة، وهذا ينتج عن ضعف الرأي العام في المواجهة وانتشار حالة التراخي واللامبالاة بين الناس، لهذا يجب ترصين المقومات والمرتكزات التي يقوم عليها الرأي العام الفاعل، وهي ركائز مؤثرة جدا ويجب التعامل معها بجدية وعلمية وتنسيق وتنظيم تام.
لا يصح إهمال مقومات الرأي العام كونها نقطة الانطلاق نحو بناء منظومة جماعية إزاء هدف محدد كمواجهة الأزمات وهو موضوعنا في هذه الكلمة، وفي حال عرفنا ما هي هذه الركائز وكيف نتعامل معها بالجدية التامة والأسلوب الصحيح، فإننا نكون قد أنجزنا هدفنا الذي يهدف إلى خلق رأي عام قوي موحد ذي ثقافة سلوكية مؤمنة بالتكافل والتعاون المجتمعي.
لهذا يؤكّد الإمام الشيرازي على أن الرأي العام (يقوم على ثلاثة ركائز هي: الجماعة، وهم الأفراد بميولهم، وتقاليدهم، وعاداتهم، ونُظُمهم السياسية والاجتماعية. المشكلة: وهي الموضوع الذي يؤثر في الرأي العام قبولاً ورفضاً. والمناقشة: بمعنى وجود النقاش والحوار والتفاعل بين الجماعة حول الموضوع المؤثر).
هذه الركائز يجب أن تخضع للتطبيق حتى يكون بمقدورنا الخروج من الأزمة أو الكارثة أيّا يكون نوعها أو حجمها أو مقادير أخطارها، ويجب التركيز على الجانب المعنوي وليس المادي فقط، فالتكافل الاجتماعي يجب أن لا يكون هدفه جمع الأموال وحدها، نعم الجانب المادي مؤثر في توفير بعض مستلزمات الحياة، ولكن يجب التركيز على جانب رفع المعنويات.
فنحن اليوم نواجه كارثة (كورونا) وهي جائحة بحسب توصيف منظمة الصحة العالمية، وقد تفوق بمخاطرها الزلازل والأعاصير التي تنتهي في مدة محدد، على العكس من هذه الجائحة التي بدأت منذ شهور ولا يعلم نهايتها إلا الله، حتى بعض رؤساء الدول الكبيرة ردّد بعضهم (انتهت حلول الأرض والأمر متروك للسماء)، في إشارة إلى العجز البشري في مواجهة هذه الأزمة، لذلك يجب التركيز على رفع معنويات الناس، حتى يتخلصوا من حالات الذعر والخوف ويركزوا على طرائق الخلاص من هذه الأزمة الخطيرة المعقدة.
الإمام الشيرازي يقول:
(إن قدرة الرأي العام وتأثيره في المعنويات أكبر بكثير من قدرة تأثير أكبر السيول في الماديات، وهي تفعل ما لا تفعله أشد الأعاصير والزلازل).
هناك وسائل متاحة لمن يهمه الأمر، فالإعلام بمختلف أنواعه يمكنه القيام بمهمة كبيرة تصب في مواجهة الأزمات بمختلف أنواعها، لكن هذا يتطلب حرية العمل الإعلامي، وحسنا فعلت الجهات الحكومية المختصة حين استثنت الإعلاميين من الحظر كي يقوموا بجهودهم في زيادة الوعي والثقافة وتنمية المعنويات عبر الرصد الميداني اليومي المستمر.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(تقوية وسائل الإعلام وإعطائها الحرية الكافية لممارسة مهامها ضمن أطر مشروعة تصب في خدمة المصلحة العامة، وتنمية الوعي وثقافة مواجهة الأزمات).
بالنتيجة نحن بحاجة إلى رأي عام مثقف وواع لمواجهة الأزمات، لاسيما أننا نمر اليوم بأزمة شائكة، بل بالغة التعقيد، مظهرها صحي لكن تداعياتها أدخلت العالم كلّه في حالة سبات شبه، ما أثر على كل مقومات الحياة في العالم أجمع، وهذا ما يدعو دول وشعوب العالم أجمع أن تتكاتف وتتكافل للخروج من هذه الجائحة إلى بر الأمان.
اضف تعليق