ما يحدث اليوم في عالمنا، لم يكن خفيّا أو مفاجئا أو مستبعداً، بل كان قد تنبّأ به الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، قبل عدة عقود وذكر الكثير مما نمر به اليوم من أزمات في مؤلّفاته الكثيرة، وحذر من أن الأسس التي يقوم عليها بناء العالم ليست صحيحة...
ما يحدث اليوم في عالمنا، لم يكن خفيّا أو مفاجئا أو مستبعداً، بل كان قد تنبّأ به الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، قبل عدة عقود وذكر الكثير مما نمر به اليوم من أزمات في مؤلّفاته الكثيرة، وحذر من أن الأسس التي يقوم عليها بناء العالم ليست صحيحة، وطالب سماحته آنذاك قادة العالم وقادة المسلمين بأهمية إعادة صياغة أو هيكلة العالم بما يتفق والقواعد الإنسانية المنسجمة والقائمة على القيم السليمة.
واليوم ونحن نمر بأزمة عالمية جديدة من نوعها، من حيث التعقيد والخطورة البالغة، والتهديد الجدّي للبشرية كلها، ممثلةً بجائحة كورونا، فإننا ملزمون بإعادة النظر بالقواعد والنظم التي يسير عليها العالم، والتي تقوم عليها العلاقات الدولية في مختلف المجالات، إننا ببساطة نعيش أزمة لم يمر بمثلها عالمنا من قبل، وهذه الأزمة من الممكن أن تهدد الوجود البشري بأكمله!
وعلى الرغم من أن العنوان العريض لهذه الأزمة العالمية الجديدة ينحصر بالجانب الصحي، وتهديد حياة الإنسان بايولوجياً، إلا أن الأذرع الخطيرة لهذه الأزمة تمتد لتهشم ركائز الاقتصاد العالمي وتخلخل النظم السياسية، وتطيح بالركائز الاجتماعية وسواها، وبالتالي نكون أمام عالم هش يمكن أن يتهدد بكائن لا يُرى بالعين المجردة كما حدث اليوم مع فايروس كورونا.
لذلك نظامنا العالمي القائم على الغبن، وفقدان العدالة، وانتشار منطق القوة ونهب الحقوق، سواءً بين الدول الكبرى التي تتصارع فيما بينها من أجل الاستحواذ على الثروات، أو بين الدول الأقل قوة والتي غالبا ما يكون الكثير منها محارب بالوكالة عن الدول القوية، هذا التخلخل في النظام العالمي يستوجب هيكلة جديدة للنظام العالمي، ومشاركة الجميع في البناء الجديد.
الإمام الشيرازي يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ (السعي نحو بناء المجتمع الإسلامي:
(الظروف العصيبة التي تمر بالعالم.. والمشكلات الكبيرة التي تعيشها الأمة الإسلامية.. والمعاناة السياسية والاجتماعية التي تقاسيها على مضض.. وفوق ذلك كله، الأزمات الروحية والأخلاقية التي يئنّ من وطأتها العالم أجمع، كل ذلك يتطلب البحث الحثيث في صناعة عالم أفضل).
النجاح الفردي في الإطار الجماعي
وعلى الرغم من أن المهمة عسيرة وعنوانها واسع، وتشمل إعادة لبناء العالم، لكن الفرد (كل فرد) تقع عليه مسؤولية من نوع ما، وبدرجة معينة، وحين يكون أفراد الأمة وأي مجتمع كان، جادّون هادفون إلى التغيير في ذواتهم أولا ومن ثم في مجتمعاتهم، فإن هذا الهدف الواسع الضخم سوف يكون بالإمكان الوصول إليه.
وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي حين يقول:
(إذا كان أفراد أمة يعيشون عيشة هادفة، ويسعون في بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، تقدم أولئك الأفراد وتقدمت الأمة بهم).
وربما ينظر الفرد إلى نفسه وكأنه غير قادر على الدخول في معركة تغيير العالم، لكنه مخطئ في هذا التقدير، فالأرض يسكنها مليارات من البشر، وعشرات من الأمم الكبيرة، ومئات من الدول، وحصيلة سعي الفرد في مجموعه هو النتيجة النهائية للجهد البشري الأشمل على الأرض، وإذا اجتمع الفعل الفردي الصحيح وأُكمِلتْ المسؤولية الفردية بنجاح، فإن العالم كله سوف يلمس النتائج العظيمة للفعل الفردي.
لهذا يجب أن يتم التركيز على نشاط الفرد ودعمه وتشجيعه وتوفير مستلزمات النجاح له من قبل الجهات الرسمية والمدنية، على أن يتصدى الأفراد لمسؤولياتهم وأدوارهم بذكاء وشجاعة وصبر، حتى يتم اغتنام كل لحظة من لحظات العمر للمشاركة في صناعة أمّةٍ أفضل ومن ثم عالمٍ أرقى وأكثر عدلا.
الإمام الشيرازي يقول:
(إذا تماهل الإنسان في اغتنام فرصة العمر وتكاسل عن العمل وخدمة المجتمع والأمة الإسلامية في مدة الحياة، فسوف لن يشعر إلاّ وقد انقضى عمره، وانتهى أمده).
وحتى نكون مشاركين فعليين وناجحين في إعادة هيكلة النظام العالمي، وتهديم الأسس الخاطئة التي يقوم عليها، كاحتكار ثروات العالم من قبل أفراد، أو إشاعة ونشر سياسة الكيل بمكيالين، أو محاولات نشر الحروب والصراعات بالوكالة، كل هذا حتى يتم تصحيحه، يجب اغتنام كل فرصة يمكن أن تسهم في إنجاز هذا الهدف، وخصوصا على مستوى الأفراد الذي ينبغي أن يواكب صفات العصر، ويكون أكثر ذكاءً وأعلى قدرة على الإنجاز.
هل ضاع عالمنا في المتاهة المادية؟
فعصرنا الراهن وعالمنا المتخلخل يتسارع في الضياع بمتاهة المادة، وقد تم التركيز عل هذا الجانب المادي حتى تحوّلت (المادة) إلى وحش مارد يريد أن يسحق الجميع وهو في طريقه المتسارع نحو التطوّر غير المتوازن، نعم علينا كأفراد وكأمة أن نستثمر العمر أقصى ما نستطيع، ولكن وفق نظام ينصف الجميع في إطار نظام عالمي يحمي الجميع ويكبح جماح المادية المستأسدة، فنحن مطالبون باستثمار الفرص بأقصى طاقتنا ولكن يجب أن يكون ذلك في إطار القيم التي تحمي حقوق الجميع وتبعد الشبح المادي عن النظام العالمي الحالي.
يصف الإمام الشيرازي عصرنا هذا بقوله:
(هذا العصر الذي نعيش فيه الآن هو عصر السرعة والتقدم، وعصر النموّ والازدهار المادي، وهو يمضي نحو الأمام بسرعة الضوء كالبرق الخاطف، وفرصة العمر في هذا العصر قيّمة وثمينة، فلابدّ من اغتنامها واستغلالها، واستثمارها بالكيفية الصحيحة).
ولا يجب أن نفهم الدعوة إلى العمل الفردي والمساهمة الفردية الفعالة في التطوير والتغيير، على أنها لصالح الفرد فقط، فنحن لسنا دعاة تميّز فردي يعزل نفسه عن الفائدة الجماعية، ومتى ما كان نجاح الفرد شاملا، أي لصالح نفسه ولصالح المجتمع في نفس الوقت، فهذا هو المطلوب تماما، وهذا هو الفعل والنشاط الذي سيقود العالم الحالي إلى حياة أفضل تقوم على نظام عادل يقوم بدوره على أسس جديدة أخلاقية إنسانية تحمي الجميع من الجهل والجوع والمرض.
فأنت كفرد مطلَب بالنجاح، لأن نجاحك مهم ومطلوب، ولكن المطلوب الأهم والأكبر أن تقوم بتوظيف نجاحك كي ينجح الآخرون ويرتقون إلى مرتبة نجاحك، على أن لا تكتفي بالارتقاء شخصك وحياتك، هذا ليس كافيا وإن كان يمثل نجاحاً لك، ما يكفي ويدخل في إطار النجاح الفعلي، هو وضع سعيك وتميزك وابتكاراتك في خدمة المجتمع كله وليس حكرا على ذاتك.
الإمام الشيرازي يؤكد على هذا الشرط فيقول:
(من الأفضل للإنسان الذي يريد السعي نحو مجتمع صالح، أن لا يقتصر همّه على تأمين احتياجاته الفردية والمادية، كتحسين حياته الشخصية وتوفير الراحة لها فقط، بل يجعل جهده وهمّه ينصب في رفع مستواه العلمي والمعنوي والثقافي والأخلاقي، الداعي إلى خدمة المجتمع)
ولكي نحوّل حلمنا بعالم أكثر عدلا، إلى حقيقة، يجب أن نفهم جميعا، بأن هذا الهدف بالنتيجة هو حاصل تشارك جمعي، في إعادة تقويم الركائز والقواعد والقيم التي يرتكز عليها النظام العالمي، ولا يختلف اثنان من أننا نعيش اليوم عالم أزمات متوالدة من بعضها بعض، فما أن تندحر أزمة حتى تولد أخرى أكبر وأعقد وأكثر خطورة كما نعيش اليوم في أزمة كورونا.
لذلك يؤكد سماحة الإمام الشيرازي على أن:
(المطلوب منا ـ فرداً فرداً ـ أن نسعى في سبيل إصلاح المجتمع والعالم، بجميع ما بوسعنا، وبكل ما في جهدنا، على أن نجعل من مجموع عمرنا حصيلة نافعة وثمرة يانعة نخدم عبرها مجتمعنا والإنسانية كلها).
وفي حال تضافرت الجهود كلّها، وهو أمر منوط بقادة الدول وبالحكومات وبالطبقات السياسية في العالم أجمع، حيث أنها مسؤولة عن دعم الأفراد وتطوير مواهبهم من جهة، وبناء مجتمعات متطورة من جهة أخرى، فإنها مسؤولة بقوة أيضا على إعادة النظر بالعلاقات الدولية التي تقوم اليوم على الصراعات والظلم وإلحاق الضرر بالنسبة السكانية الأكبر للأرض، بسبب تخلخل النظام العالمي وتحوله من نظام متوازن صانع للتطوير الجماعي إلى نظام صانع للأزمات بامتياز.
اضف تعليق