مرت بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، ونحن نعيش محنة محليّة وعالمية تتمثل بوباء كورونا، وقبل هذا الوباء تحاصرنا أزمات وأوبئة لا حصر لها، سببها الإنسان على مستوى العالم، لاسيما القادة منهم، كونهم لم يتعلموا من تجارب غيرهم وخاصة نماذج الصبر العظيمة...
مرت بنا هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، ونحن نعيش محنة محليّة وعالمية تتمثل بوباء كورونا، وقبل هذا الوباء تحاصرنا أزمات وأوبئة لا حصر لها، سببها الإنسان على مستوى العالم، لاسيما القادة منهم، كونهم لم يتعلموا من تجارب غيرهم وخاصة نماذج الصبر العظيمة والكفاح الفريد ومنها تجربة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وصراعه وكفاحه المرير ضد القمع والظلم والطغيان.
وإذا كانت أمم العالم الأخرى في الغرب والشرق لا تعرف ولا تقتدي بسيرة الإمام الكاظم عليه السلام، فربما نجد لها عذرا في ذلك مع أننا كمسلمين نتحمل سبب عدم وصول تجاربنا الكفاحية العظيمة للآخرين، فما بالك حين لا نقتدي بها نحن مع علمنا بها ومعرفتنا لها، خاصة (القادة) والمسؤولين الذين يعرفون قيمة هذه التجربة العظيمة في الصبر والإيمان ولا يعملون بها!
الإمام هو موسى، ابن جعفر الصادق، ابن محمد الباقر، ابن علي زين العابدين، ابن الحسين الشهيد، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام وهو سابع الأئمة المعصومين الاثني عشر، الذين نص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله، خلفاء من بعده.
وهو رُصِد من نظام القمعي لهارون لأنه كان يهدد السلطة بعلمهِ وصبره والتفاف العقول حوله، ونظرا لهذا التهديد تعرض الإمام لما تعرّض له من مضايقات قلّما حفل بها التاريخ السياسي ضد العلماء والمفكرين المتنزهين عن صغائر ووضاعة النفس والدنيا، وبسبب هذه المكانة العلمية الكبيرة والفريدة التي كان يتبوّأها الإمام الكاظم عليه السلام، كان هدفا للسلطة الهارونية التي رأت فيه فنارَ هدىً للمسلمين وللناس أجمعين حتى النصارى من بينهم وغيرهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول في كتابه الثمين الموسوم (من حياة الإمام الكاظم عليه السلام):
(كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أعلم أهل زمانه، فلم يصل إلى مرتبة علمه أحد. وقد روى عنه العلماء في مختلف فنون العلم ما لا يمكن حصره، وألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يعرف بين الرواة بالعالِم).
هزيمة الجبروت أمام قلعة الصبر
ولأن هذه المكانة العلمية مستمدة من العلم النبوي المتوارَث من الدوحة المحمدية، كان هارون يعرف مدى خطرها، ومدى إمكانيتها الجاذبة لعقول وقلوب الناس، وبهذا استخدم هارون كل الأساليب السياسية التي تدخل في أبواب (الترهيب والترغيب)، لاستمالة الإمام عليه السلام وكسب ودّه وتأييده.
ولكن أنّى له ذلك وهو يتعامل مع قامة ذات نسل وامتداد نبوي لا ترى في الدنيا ومغانمها إلا هباء، فضاقت بالسلطة الحيَل، مع معرفة هارون للمكانة العلمية العظيمة للإمام واحتار في سلوكه وتصرّفه، فلا التخويف ولا الترغيب غيّرا مبدئية الإمام عليه السلام.
مما دفع بهارون وجبروته الاعتراف بمكانة وعلمية الإمام الكاظم عليه السلام، وهو يعرف في قرارة نفسه تلك المكانة وذلك التأثير العظيم للإمام في الناس، مما يمثل الخطر الأكبر على عرشه وهو المتمسك بملذات السلطة ومغانمها كما يفعل بعض قادة المسلمين اليوم!.
يقول الإمام الشيرازي في الكتاب ذاته:
(لقد اعترف هارون بعلم الإمام الكاظم عليه السلام حيث قال في قصة مفصلة: ... يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم كذا أنهي إليَّ، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو إلاّ وتأويله عندكم واحتججتم بقوله عزَّ وجل: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)، وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم).
ولعلّ مصدر الخوف الأكبر للسلطة آنذاك، كان ينطلق من كون الإمام الكاظم مصباح هداية للجميع، ليس للمؤيدين له فقط بل حتى المخالفين في الرأي والعقائد، كانوا يرون في شخصية الإمام الكاظم عليه السلام النموذج الذي يجب أن يقتفوا أثره ويتعلموا منه ويؤمنوا به، كونه من سلالة النور الإلهي الموكول للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله.
هل يكف المسؤولون عن فسادهم؟
لهذا كان الإمام عليه السلام يستثمر جميع الفرص صغيرها وكبيرها، وفي أعقد الظروف وأخطرها، لكي يزرع النور في العقول والنفوس والهداية في القلوب، ولكي يجعل الناس مستبصرين عارفين لما يدور حولهم من ظلم وانتهاك لحقوقهم، ويفتح آفاق الإيمان والصبر أمامهم كي يرفضوا سلب حقوقهم، وينغّصوا على المتسلطين حياتهم، ويجاهدوا من أجل استرداد كرامتهم وحقوقهم والحفاظ عليها من الحكام الظالمين الفاسدين المستخفين بهم.
لذلك بسبب هذا النور المتدفق إلى العقول والقلوب الظامئة للإيمان، اهتدى كثيرون ومنهم من النصارى، فالعقل يستقبل الأفكار الإنسانية الصحيحة، ويفرّق بين ما يضرّبه وبين ما يحسّن حياته، فكانت الأفكار العظيمة التي يطرحها الإمام ويقدمها للجميع في كل فرصة سانحة، تُسهم في إرعاب السلطة من جهة وتضاعف من أعداد الساخطين الثائرين من جهة أخرى.
الإمام الشيرازي يقول عن ذلك:
(كان الإمام الكاظم عليه السلام كآبائه وأجداده الطاهرين سبباً لهداية الناس إلى الإسلام، ومذهب أهل البيت، فكم من كافر أسلم على يديه، وكم من مخالف استبصر ببركته. وكان الإمام عليه السلام يستفيد من كل فرصة للهداية، وتبليغ معالم الدين، وقد اهتدى على يديه الكثيرون، كان منهم ذاك الرجل النصراني الذي التقى بالإمام عليه السلام في العريض، وكان قد جاء من بلد بعيد وسفر شاق، وكان منذ ثلاثين سنة يسأل عن خير الأديان، وخير العباد وأعلمهم).
ومع كل هذه الجهود الفكرية والدينية والمبدئية العظيمة التي وضعها الإمام عليه السلام بين أيدي الناس وأمام أنظارهم وعقولهم، وبالأسانيد المنطقية التي لا تقبل الخطأ، كان عليه السلام يخشى الله ويلوذ بالدعاء كثيرا، فيما يغوص أرباب السلطة في وحل الرذيلة، ويتسابقون إلى السحت الحرام، ويتنافسون على ظلم الناس، كما يحدث اليوم في بعض الدول الإسلامية التي يقودها حكام أخذهم الدنيا من تلابيبهم، وسحبتهم إلى مستنقع الملذات واللهو وسحرتهم السلطة.
الإمام الكاظم كان يدعو الله العفو عند الحساب، فماذا سيدعون القادة والمسؤولون الذين أصابهم اللهو وتغافلوا عن حقوق الناس، الإمام الكاظم الذي أرعب سلطة هارون، يبكي خشية من الله، فماذا سيفعل الحاكم والمسؤول والموظف الذي ابتزَّ الناس وتجاوز على الحقوق وساهم في مضاعفة الفقراء؟؟!!
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام موسى بن جعفر يدعو كثيراً فيقول: اللهُمَّ إنيّ أسألُكَ الرّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، وَالعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ ويكرر ذلك. وكان من دعائه: عَظُمَ الذنْبُ مِنْ عَبْدِكَ فَلْيَحْسُنِ الْعَفْوُ مِنْ عِنْدِكَ، وكان يبكي من خشية الله حتى تخضل لحيته بالدموع).
إنها دعوة إذن للجميع في ذكرى استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام، أن يستفيق بعض الحكام والمسؤولين من سهوهم وأن يتوبوا إلى الله، وأن يتعلموا الدرس الصحيح من سيرة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، وأن يعرفوا ويؤمنوا بأن يوم الحساب قادم لا محالة، وأن الفرصة لا تزال سانحة أمام الجميع، فالتوبة لا تزال متاحة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعا) صدق الله العلي العظيم.
اضف تعليق