في إدارة البلاد وهداية العباد تبرهن الرسالات السماوية كافة، على انها تنتهج سياسة واحدة قد دعا إليها جميعها، وهي سياسة اللين واللاعنف والغضّ عن إساءة الآخرين، فإذا أصبح اللاعنف منهج حياة شامل، لا يستثني أحدا، حاكما أو محكوما، هذا يعني بأننا مقبلون على صنع حياة مدعومة بالسلم والاستقرار...
تُثار تساؤلات كثيرة عن منهجية الإسلام ورؤيته للسياسة ودورها في تطوير الحياة، وبعض هذه التساؤلات قد يصل إلى مرتبة التشكيك مما يحيل التساؤل إلى نوع من الاتهام، وهنا تبدأ رحلة أخرى من محاولات الإثبات اللازمة، فالإسلام ليس الديانة السماوية الوحيدة، بل كانت السماء مصدرا لأديان أخرى من أهل الكتاب كاليهود والمسيح، ومع ذلك طُرِحتْ ولا تزال تُطرح تساؤلات عن سياسة الإسلام ومنهجيته في التعامل بمجالات الحياة كافة.
وقبل التطرّق إلى ماهيّة الإسلام منهجاً ومضامين وتعاليم، لابد من الاعتراف، خصوصا ممن هم على شك بسياسة الإسلام، بسبب عدم المعرفة، وقلّة اليقين، بأن الإسلام دين سماوي فُصِّلتْ مبادئه ونظرته إلى الإنسان والحياة، في آيات كريمة ضمها كتاب الله الحكيم بين دفّتيه، وتلته أحاديث وروايات شريفة، يمكن للباحث المشكك أو غيره، بالإطلاع والتمحيص المتأني الدقيق، ومن ثم استنباط النتائج التي توضّح بالدقة ما هو الإسلام وما هي الركيزة العظمى التي يرتكز عليها؟.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يوضّح في كتابه القيم الموسوم بـ (اللاعنف في الإسلام)، المنهجية الأساسية الفكرية والعملية التي يرتكز عليها الإسلام، وبالإمكان أن تكون بمثابة أجوبة شافية لمن يطرح الأسئلة، سواءً كان هدفه الإطلاع حقّا، أم التشكيك، فلا يزال هناك من يتساءَل عن سياسة الإسلام حتى يومنا هذا.
يقول الإمام الشيرازي: (بين الحين والآخر يعاود البعض تساؤلاته حول سياسة الإسلام قائلا: يا تُرى هل للإسلام سياسة خاصّة؟ وإذا كانت له فما هي؟).
ويذهب متسائلون إلى طرح نوع من المقارنة بين سياسة الإسلام والسياسة الغربية من ناحية والشرقية من ناحية أخرى، وهل هناك اختلاف بين السياسات الثلاث؟، ولعل الإجابات الشافية يمكن استنباطها من الأفكار والتعاليم التي أفرزتها الكتب السماوية، فضلا عما قدمته الأحاديث والروايات الشريفة من توضيحات لتفاصيل هامة أصبحت في متناوَل المعرفة لمن يرغب في ذلك.
من الواضح أن التركيز على سياسة الإسلام تسعى إلى وضعه في موقع الاتهام، لسبب يبدو بسيطا لمن يتخذ من الحقيقة مسلكا له، فالمضامين التي يطرحها القرآن الكريم واضحة وفي متناول جميع المتسائلين، وهي تركّز على اللاعنف كسياسة لا يحيد عن الإسلام، ولا يتخذ من سواها منهجا له، وبهذا فإن هنالك فوارق لابد من رصدها واستغوار بواطنها وفهمها تعطي لكلّ ذي حق حقّه ومكانتهُ.
أفضل البرامج السياسية والإدارية
وما قدّمه الإسلام من برنامج سياسي في بواكير الرسالة النبوية، وطبقه في الواقع آنذاك، أفضى إلى بناء دولة عظيمة وفق تجربة سياسية تمكنت من التفوق على إمبراطوريات عظمى في زمانها، لذلك لا يمكن إنكار البرنامج الذي قدمه الإسلام في مجال السياسة وإدارة لدولة مترامية الأطراف، وهذا الأمر يقتضي بالنجاح السياسي والإداري الذي يميز سياسة الإسلام عن الغرب والشرق.
الإمام الشيرازي يتساءل ويجيب قائلا:
(ما هو الفارق بين سياسة الإسلام والسياسة الغربية أو الشرقية؟ وهل إنّ سياسة الإسلام تختلف عن سائر سياسات الرسالات السماوية السابقة؟، الجواب: نعم الإسلام يشتمل على أفضل برنامج في المجال السياسي وفي إدارة البلاد والعباد).
وقد يقول قائل، نحن أبناء اليوم، ونريد رصد ما يجري حاضرا في الدول الإسلامية، وهل الإسلام فيها كتجربة سياسية أو إدارية استطاع أن يدفع بتلك الدول إلى واجهة التقدم بما يتوافق والأوضاع المعاصرة؟، والإجابة عن مثل هذه التساؤلات يأتي على وفق نظرتنا بالصيغة التالية: إن ما ينبغي التركيز عليه هنا هو جوهر سياسة الإسلام الذي يتجسّد في اتخاذه من السلم واللاعنف منهجا في تطوير الحياة وأساليب الإدارة والعيش المستقر الرغيد.
يقول الإمام الشيرازي:
(من مقومات السياسة الإسلامية: السلم واللاعنف في مختلف مجالات الحياة، ومع مختلف الأطراف).
فجوهر منهج الإسلام هو الجنوح نحو السلم، واعتماد اللاعنف في كل مجالات الحياة، ومع جميع الأطراف، سواءً المتَّفَق أو المختلَف معها، وهذا الأسلوب يمثل خلاصة المبادئ والأفكار والأساليب والمناهج التي تمنح الإنسان فرداً أو أمة، القدرة على معالجة جميع المشكلات الصغيرة والكبيرة عبر أسلوب الحوار.
الحوار أسلوب ناجع لحلّ المعضلات
المهم هنا ليس هنالك عنف، ولا قمع، ولا قسر، ولا إكراه، ولا لجوع إلى استخدام القوة في حل المنازعات، هذا هو جوهر مبادئ وتعاليم الإسلام الواردة في كتاب الله وفي الروايات والأحاديث الشريفة، التي تفصّل بصورة أكثر وضوحا منهج اللين الذي ينبغي على الجميع لاسيما الحكّام والقادة وصناع القرار التمسك به واعتماده مسلكا لتطوير الحياة وتنميتها بما يتوافق مع ما يجري من تطورات معاصرة.
لكن مع كل ما يتّضح لساسة اليوم وقادة القوم من وضوح وتفصيل ودقة فيما ذهب إليه منهج الإسلام بعيدا عن العنف، نرى بعض الحكام والساسة من الذين يسوسون المسلمين في بلدان عدة، يتناسون هذا المنهج العظيم، أو يتغافلونه ويضعونه خلف أظهرهم، مما يدفع بهم إلى استخدام العنف والقوة في معالجة المشكلات الداخلية أو الخارجية.
وهو أسلوب يرفضه الإسلام الذي يدعو للحوار والسلم واللاعنف واللين، لكن هناك في عالم المسلمين اليوم ومن قادتهم وساستهم من لا يعترف باللاعنف، إما عدم إطلاع عليه أو عدم إيمان به، الأمر الذي يجعل من الحياة شديدة القسوة، حيث القمع يسود والظلم ينتشر، والفساد يستشري، كلّ هذا يحدث لأننا من يتولى أمور المسلمين ينتسب لهم بالاسم فقط.
لذلك ما هو من لبّ الواجبات الملقاة على عاتق أي حاكم إسلامي أو قائد أو سياسي، هو أن يطّلع جيدا على المضامين التي تسهّل إدارة شؤون الناس، وتساعد الحاكم على تجنّب العنف مع الأمة أو في مجال حلّ مختلف المشكلات، حتى المستعصية منها، مسترشدا في ذلك بالتجربة العظيمة التي تركها الأسلاف في سجلات التاريخ.
ومما يسهّل على الساسة والمسؤولين كافة مهمتهم العادلة، هو قدرتهم بل وواجبهم بالإطلاع على ما جاءت به النصوص القرآنية المباركة، وما حملته من توضيحات قاطعة تساعد على إدارة الدولة والأمة بسلاسة، ترادفها الأحاديث والروايات الشريفة التي تبيّن وتقدّم جوانب مهمة من سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام، وتركّز في مجملها على منهج اللين والسلم واللاعنف.
ولا ينحصر هذا المنهج بالقادة والحكام فقط، بل حتى الأفراد من عامة الناس يقع عليهم واجب انتهاج اللاعنف في علاقاتهم مع الآخرين، كذلك يشمل المسؤولين وفق التدرّج الكامل لمراكزهم، فالجميع عليه أن يتخذ من اللين واللاعنف أسلوبا ومنهجا في الإدارة والعمل والعلاقات كافة.
يقول الإمام الشيرازي:
(يكفي الإنسان أن يلقي نظرة سريعة على الآيات والروايات الشريفة المتطرّقة إلى منهجية الرسالات السالفة في إدارة البلاد وهداية العباد، فيتجلّى له واضحاً أنّ كافة الرسالات السماوية كانت لها سياسة واحدة قد دعا إليها جميعها. فما هي تلك السياسة التي اتّفقت عليها رسالات السماء؟، إنّها سياسة اللين واللاعنف والغضّ عن إساءة الآخرين).
فإذا أصبح اللاعنف منهج حياة شامل، لا يستثني أحدا، حاكما أو محكوما، فهذا يعني أننا التزمنا بما دعانا إليه الإسلام، وبما طبّقه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وما علَّم به الأئمة الأطهار، وهذا يعني بأننا مقبلون على صنع حياة مدعومة بالسلم والاستقرار، ومحمية باللاعنف والعدل والسلام.
اضف تعليق