لا طريق أمام المسلمين للنهوض مجددا سوى اللاعنف والسلم، والدخول في تنافس من نوع آخر، وهو طريق العلم وتطوير المهارات، وتوظيف الثروات في المجالات العلمية التكنولوجية وتطوير القدرات التعليمية، وعدم هدر الطاقات في نزاعات يمكن التخلص منها بعد الإيمان باللاعنف كمنهج حياة...
منذ عقودٍ بعيدة ظهرت دعوات جادّة تطالب الجميع باعتماد اللاعنف سبيلا إلى تحييد التصادمات بمختلف أنواعها وأشكالِها، وعلى أرض الواقع التطبيقي نجح قادة روحيون وسياسيون في إثبات هذا الرأي الذي وصفه عدد من العلماء بأنه قانون الإسلام الذي نزل في نصوص قرآنية ركّزت على الجنوح إلى السلم، كبديل عن الحروب والعنف بكل أشكاله.
والدليل التاريخي الأوضح على جدوى اللاعنف وقدرته في تغيير حياة الناس وجعلها أكثر استقرارا وسلاما وإنجازا، هو التغيير الهائل الذي حدث في بداية الأمر ضمن مجتمع الجزيرة العربية الذي كانت تتفشى فيه العصبية والتطرف وكل مظاهر العنف والاقتتال، لفضل سياسة اللاعنف التي استند إليها الرسول محمد (ص)، وألزم بها جميع قادة الدولة، بل وجعل منه ثقافة مجتمعية يلتزم بها أفراد الأمة بلا استثناء، كونها الطريق المثمر نحو وأد الفتن ونشر السلام.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (اللاعنف في الإسلام):
(الإسلام الحنيف جاء إلى البشرية ليخرجها من الاستبداد والجور ويأخذ بيدها نحو العدالة والأمان، لا أن يرمي بها في متاهات البطش والعنف التي لا يجنى منها سوى الويل والآهات).
وفي نظرةٍ ملقاة على ما يجري في العالم عموما، وفي الشرق الأوسط، ومظاهر العنف التي تهيمن على المشهد العالمي والشرق أوسطي، سيكتف المراقب أن هناك إشارات وعلامات وأحداث تُنذر بوقوع أعمال عنف مخيفة ترقى إلى وصفها بالحروب الكبرى، وجزء من أسباب وصول العالم إلى هذا الذي يجري اليوم من نزاعات وتصادمات مخيفة لمصالح الدول، هو ابتعادهم التام عن اللاعنف.
ومن المفارقات الغريبة حقّا أن القادة الذين يحبّذون العنف ويستخدمونه في سياساتهم، هم أول القادة الذين يضعون اللاعنف والسلم خلفَ ظهورهم، بل هم يذهبون إلى أكثر من ذلك حين يستعرضون قوّاتهم ووسائل البطش الفتاكة التي يمتلكونها في مواجهة الآخر، أما اللاعنف فلا يدخل في حساباتهم ولا يرون ضرورة لتجنيب شعوبهم والعالم أجمع مخاطر اندلاع الحروب التي ثبت تاريخيا وواقعيا بأن المتحاربين جميعهم خاسرون، فلا رابح في أية حرب حتى لو انتصر على أعدائه، لذا لا بديل للحروب والتهوّر سوى اللاعنف الذي ينقذ الجميع.
ولكن هذا يتوقّف على إيمان قادة العالم ورؤساء الدول المتصارعة باللاعنف، فكما ذكرنا هناك من يُكثر من ألفاظ السلم والعفو في كلامه وتصريحاته، لكنه يكون مختلفا تماما حين يتعلّق الأمر بإدارة صراع أو مشكلة لها علاقة بالمصالح والأطماع وفرض المصالح بالقوة والبطش.
اللاعنف أبرز صفات الرسول (ص)
ولو أمعنَ الجميع النظرَ في شخصية الرسول (ص)، وأتقن دراسة إدارته للسلطة، وتعامله مع الأضداد، فإنه سيكتشف أن ما تحقق من انتصارات عظيمة وبناء دولة المسلمين، ما تحقق إلا بما يتحلى به الرسول الأكرم من إيمان قاطع باللاعنف، وتطبيقه بشكل حرفي في إدارته للدولة والصراعات التي حدثت مع الدول الأخرى، ولم يكن العنف والخشونة والتبجح أو إذلال الآخرين والتسلط عليهم من مبادئه، بل من أهم الأولويات دعوته (ص) الجميع لاحترام قانون السلم واللاعنف.
الإمام الشيرازي يقول: (إنّ من أبرز صفات الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، أنّه كان لا عنفياً إلى أبعد حدّ، وقد دعا القرآن الكريم المسلمين قاطبة أنْ يدخلوا تحت ظلّ هذا القانون، فقال عزّ من قائل: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).
وقد أزعج هذا المنهج الإسلامي الكثير من الأعداء، في الداخل والخارج، ومنهم تلك الشبهات الغربية التي سعت - ضمن أجندات الحرب على الإسلام- إلى لصق تهمة العنف وسفك الدماء بالإسلام، وهذه الدعوات ليس لها نصيب لا في الواقع ولا في التاريخ، فمن يقوم بإلحاق الأذى بالآخرين باسم الإسلام، هو في الحقيقة يسيء للإسلام الذي وضع اللاعنف كأساس لبناء أسس العلاقات مع الآخرين.
لذلك فإن الدعوات التي تسعى أن تجعل من العنف لصيقا بالإسلام لا وجود لها في الواقع، إنما الحوار، والتفاهم، لفك العقد ووأد التصادمات، هو أسلوب أول وأعظم قائد إسلامي في التاريخ، وهو الذي جعل من قيم التسامح والعفو واللين والجنوح إلى السلم، في مقدّمة قيم التعامل مع الآخرين، بما في ذلك المختلفين أو الأضداد، فالجنوح إلى السلم هو أعظم ما يتحلى به المسلمون، لذلك فإن شبهات القسوة والعنف لا يمكن أن تجد لها سندا مؤيّدا في الفكر الإسلامي الأصيل.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (من الشبهات الغريبة التي أثارها مناوئو الإسلام وروّجها بعض الجهلاء من المسلمين، هي أنّ الإسلام العزيز يدعو إلى العنف والقوّة، ويحارب سبل السلام مع الآخرين).
الشبهات الغربية وتشويه الحقائق
ولكن هنالك أمور مؤسفة وجدت طريقها لعقول البعض الذين انطلت عليهم شبهات لصق العنف بالإسلام، ولم يتعبوا أنفسهم وعقولهم في البحث والإطلاع على النصوص القرآنية الكريمة الداعية للسلم، ولا على الروايات والأحاديث الشريفة التي حثَّت الجميع على اعتماد الحوار والعفو، والذهاب إلى السلام والسلام، حتى لو كان الطريق إليهما طويلا ومعقَّدا، فالحوار لا خسائرَ فيه سوى الكلام والوقت، أما التصادم والنزاع فإنه يؤدي إلى خسائر قد تكون كبيرة وصادمة، خصوصا تلك التي تطول الأبرياء وتُزهق أرواحهم دون ذنب!.
هل يمكنُ لنا أن نُنسب العنف للإسلام ومبادئه وتعاليمه، سؤال يطرحه كثيرون، منهم مناوئون ومنهم من يجهل فعلا بواطن الفكر الإسلامي وفحواه، وهذه الأسئلة عادةً ما تُثار بسبب الشبهات التي تم ترويجها ولصقها بالإسلام عن قصد مسبق، والجواب يمكن أن يأخذه السائلين بمختلف انتماءاتهم من النصوص القرآنية ومن أفكار وأحاديث الرسول (ص) وأئمة أهل البيت عليهم السلام، وصحبهم الأطهار، فإنها تعطي تصوَّرا واضحاً ودقيقا على المنهج السلمي اللاعنفي الذي دعوا إليه وطالبوا به بل وطبقوه في حياتهم، مبتعدين عن العنف كليّاً.
يقول الإمام الشيرازي: (مع الأسف الشديد أنّ مثل هذه الشبهات لقيت رواجها وحظيت باقتناع البعض من الناس الذين انطلت عليهم المسألة، فراحوا يتعاملون مع الآخرين بالبطش والعنف، متجاهلين كلّ الآيات والأحاديث الشريفة الداعيّة إلى السلم والسلام).
وعندما نقارن بين المسلمين اليوم الذين يعيشون عصرنا هذا، سنجد أنهم نفس البشر من حيث الخَلْق، فبشر الأزمنة الغابرة من المسلمين لا يتميزون عن بشر اليوم، لكنّهم عرفوا قيمة السلام، لهذا إذا أرادَ مسلمو اليوم النهوض مجدّدا فلا يمكن أن يكون العنف طريقهم، إنما اللاعنف والسلم هو أقصر الطرق لنهوضهم مرة أخرى، لأسباب واضحة إنهم يتجنبّون الانشغال بالتصادم والحروب ويتفرَّغون للعلم والتطوّر والتقدم المستمر.
والروايات والأحاديث الشريفة تؤكّد وتثبت بأن اللاعنف هو الطريق الأقوى والأضمن والأسرع لإنهاض المسلمين مجدَّدا.
الإمام الشيرازي يقول: (البشر اليوم هم نفس البشر، وزماننا الراهن هو نفس الزمان بالنسبة إلى ضرورة تطبيق القوانين الإسلامية، فإذا أردنا إنهاض المسلمين وهداية غيرهم احتجنا إلى نفس منهج اللاعنف الذي ورد في بعض الروايات نصّاً، تارةً وأخرى بلفظ السلم والرفق واللين ونحوها).
في خلاصة القول، لا طريق أمام المسلمين للنهوض مجددا سوى اللاعنف والسلم، والدخول في تنافس من نوع آخر، وهو طريق العلم وتطوير المهارات، وتوظيف الثروات في المجالات العلمية التكنولوجية وتطوير القدرات التعليمية، وعدم هدر الطاقات في نزاعات يمكن التخلص منها بعد الإيمان باللاعنف كمنهج حياة.
اضف تعليق