هل الشورى هي القارب المناسب لإنقاذنا من مآزق السلطة وأخطائها، هذا هو الأمر الواقعي الذي لا يجب أن يتجاهله السياسيون والقادة منهم على وجه الخصوص، بل حتى الأفراد عليهم بفهم وهضم وتطبيق منهج الشورى في حياتهم، لضمان التوازن التام بين الحقوق والواجبات ولنشر العدالة الاجتماعية الضامنة للتقدم والاستقرار...
كثير من المبادئ العالية في صحّتها الفكرية والأخلاقية، تتعرض للإخفاق أثناء التطبيق، وهذا لا يدلّ على خطأ المبدأ بل يكمن الخطأ في التطبيق، وهذا ما تعرَّض له مبدأ الشورى في عدد من تجارب الحكم العربية والإسلامية، وتعني الشورى في أهم وأوضح ما تعنيه، عدم الانفراد في اتخاذ القرار، خصوصا تلك القرارات التي تشمل حياة الناس وليس الأفراد، بل من المستحسَن للفرد أن يستشير الناس في المشاريع والأعمال التي ينوي القيام بها.
هناك قول مهمّ ومعروف يُنسَب إلى الإمام علي عليه السلام: (من شاور الرجال شاركهم في عقولهم)، والمعروف أنَ هذا المبدأ مستمَد من التجارب الواقعية، والشورى هي مصطلح إسلامي استمده بعض فقهاء وعلماء المسلمين من بعض آيات القرآن: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ/ سورة الشورى-آية 38).
أما الشورى في اللغة فهي مصدر من شار العسل: استخرجه من الخلية، كما في لسان العرب هي أخذ آراء الآخرين في موضوع ما لتحقيق مصلحة معينة لفرد واحد أو مجموعة من الأفراد، وأيضا هي استخراج الرأي الأنسب بتداول الآراء حول مسألة ما، ومن مجموع ما تقدم يتبن أن الشورى عملية يحدث فيها استخراج الآراء المتعددة في الأمر المعروض ممن يحسنون ذلك، وتقليبها وفحصها والموازنة بينها، واختبارها لاختيار أنفعها وأصلحها.
مما هو لافتٌ للنظر ومستغرَب عند البحث والتمحيص، أن المحيط المجتمعي الذي جاءهم مبدأ الشورى، عبر تنزيل قرآنيّ، هم القوم الذين أخفقوا في الاستفادة من هذا المبدأ أو المنهج الذي ينصح باستخدام الاستشارة في إقامة وأداء الحكم، بل ويدعو إلى تطبيق ذلك حتى على مستوى الفرد الواحد والعائلة الواحدة صعودا إلى المؤسسات التي تتدرج صعودا في أدوارها.
هناك أدلّة على أن نزول الشورى في نصّ قرآني، جاء في أحلك الظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية التي يعاني منها الجميع، حيث سيادة الأنظمة القمعية الحاكمة، والتطرف وأنواع التعسف والظلم ليس في مجتمع الجزيرة العربية فقط، بل في العالم أجمع، لذلك كان بمثابة الفنار الساطع الذي يهتدي به المسلمون والبشرية في تقويم الأداء الحاكم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام): (لقد جاء الإسلام الحنيف بفكرة الشورى في عصر لم يكن هناك قيمة للإنسان والقانون، وكانت الشورى بمثابة المشعل الذي أضاء للبشرية طريق الخلاص من الاستبداد والديكتاتورية).
كما أن الشورى تبعد شبح التفرد وتحصن الحاكم من الانزلاق في الخطأ، كونها تشرك الخبرات والعقول والآراء المختلفة في إدارة الموارد والسلطة، وما أحوج العراقيين إلى التطبيق الفعلي المتوازن لمنهج الشورى، كي يتخلصوا من الفساد والإهدار والتعسف.
تجربة الرسول (ص) مع الشورى
التفرّد في اتخاذ القرار يعني تجاوزا على عقول الآخرين وإراداتهم، وإشراكهم يعني احتراما لهم والتزاما بحقوقهم فضلا عن مبدأ وجوب تحمّل المسؤولية بشكل جماعي، فمن صفحات التاريخ وسجلاته المتنوعة، يمكن للباحث والمتخصص أن يستدل على أهمية الشورى في إدارة السلطة أيّا كان نوعها أو شكلها أو انتماءها، وهذا بحد ذاته درس عميق لقادة اليوم، والساسة العاملين في إدارة شؤون الدولة والمجتمع، ولعل الدرس الأعمق يتجسد في استشارة الرسول (ص) للآخرين، مع أنه مسنود بالتأييد والتوجيه الإلهي، ولكن مع ذلك لم يتخلَّ عن هذا المبدأ، لاسيما حين يتعلق بمصير الجماعة وشؤون الأمة.
أما لماذا إصرار الرسول (ص)، على مبدأ الاستشارة، وتطبيقه فعليا، مع أنه لا يحتاج إلى عقول الآخرين باعتباره يجد غايته في المؤازرة الإلهية، فإن الهدف من هذا الإصرار، إيصال الرسالة الصحيحة للآخرين، ولكي يتعلم القادة جميعا هذا المبدأ وكيفية تطبيقه في حياتهم، وتبين أهمية الشورى حتى في حياتنا الفردية والعائلة، بالإضافة إلى وجوب تمسّك الحكام والسياسة بهذا المنهج الضامن لتقليل الأخطاء والقرارات الفردية.
يؤكّد الإمام الشيرازي قائلا: (كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يستشير وهو غنّي عن الاستشارة، لأنّ علمه متصل بالعلم الإلهي: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى)، لكن من اجل أن يُعلّم أصحابه فن المشورة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستشير حتى المرأة).
فالنبي (ص) ما كان بحاجة إلى عقول الآخرين لأن عقله أرجح منها بصفاته وملَكاته النبوية التي تعصمه من الخطأ، ولكن حتى يعلّم شعبهُ والعاملين في إدارة شؤون الدولة على أهمية المشاركة والتشاور في إدارة الحياة السياسية وسواها، عمدَ إلى الالتزام بتطبيق هذا المنهج، حتى يلتزم به الجميع وخاصة القادة، ويطبقونه بحذافيره لمصلحة الجميع.
كيف نخفّف من أعباء المسؤولية؟
من التجارب التاريخية والعملية للفوائد الجمة التي تقدمها الشورى للحكام، تلك الدروس التي تبلورت على يد الرسول (ص)، وأراد من خلالها أن يقدم الدروس المهمة للحكام، فعلى الرغم من كونه نبيّ يتصل بالرب من خلال الوحي، وهو ليس بحاجة إلى أي عقل بشري، لكن الرسول (ص)، كان يلجأ إلى مشورة العقول الأخرى، ليس لأنه بحاجة إليها، ولكن لابد أن ينتهج هذا النهج، ويجعل منه سلوكا لإدارة الحكم وتطبيقه كي يتعلّم منه حكام المسلمين، وحتى الأفراد العاديين (فكلّكم راع مسؤول عن رعيته).
الإمام الشيرازي يذكر هذا الشاهد التاريخي في المصدر نفسه:
(لقد شاور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أصحابه في مواطن عديدة، ولم ينسَ في كل موقف وموقع أن يستشير أصحابه، حتى ولو كلفته الاستشارة ثمناً باهضاً، كما حدث في واقعة احد، حيث استشار أصحابه، فأشاروا عليه بالخروج من المدينة، وكان رأي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، البقاء فيها وكان رأيهُ هو الأصح والأكثر صوابا).
ومع ما أصاب المسلمين من تراجع معنوي وعسكري، لكن القائد الأعلى للمسلمين، الرسول الكريم حين لاحظ رغبة الأكثرية تفوق رأيه ونظرته، فإنه تخلى عن رؤيته الفردية (رغم صحتها)، بسبب كثرة أصحاب الرأي الآخر، ممن لا يتفقون مع رأي الرسول (ص)، وهذا ما دفع بالرسول إلى اعتماد الشورى والأخذ بنتائجها، حتى لو كانت النتائج مخالفة لما يرى، وهذا لعمري درس لا يمكن أن يكون من الدروس العابرة في حياة القادة، وهو أمر يؤكد أهمية أن ينظر قادتنا اليوم إلى منهج الرسول (ص)، لاسيما في العراق الذي يمرّ اليوم في منعطف سياسي تاريخي يتعلق بطبيعة الحكم وإدارة الدولة العراقية.
فلابدّ من الالتزام بالشورى وتطبيقها بما يحقق أقصى الفوائد للأمة وأقصى النجاح، وهذا ما يكفله اللجوء إلى الاستشارة بما يحفظ حقوق الجميع، ويطوّر هذا المنهج الاستشاري، ليصبح جزءاً لا يتجزّأ من المنظومة الثقافية والسلوكية للمجتمع بكل أفراده ومكوناته المختلفة.
سماحة الإمام الشيرازي يقول: (الطريف حقاً أنّ آية الشورى التي تقول: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر). نزلت على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بعد فشل المسلمين من إحراز النصر والذي كان من أسبابه خروجهم من المدينة، وجاءت هذه الآية لتقوي قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولتقول له لا تفتر عن المشورة حتى لو حصلت تلك النتيجة الخاسرة في غزوة احد).
هل الشورى هي القارب المناسب لإنقاذنا من مآزق السلطة وأخطائها، هذا هو الأمر الواقعي الذي لا يجب أن يتجاهله السياسيون والقادة منهم على وجه الخصوص، بل حتى الأفراد عليهم بفهم وهضم وتطبيق منهج الشورى في حياتهم، لضمان التوازن التام بين الحقوق والواجبات ولنشر العدالة الاجتماعية الضامنة للتقدم والاستقرار.
اضف تعليق