هناك غريزة من ضمن غرائز الإنسان، سمِّيَت من قبل العلماء المختصّين بـ غريزة التدمير، وهي تدفع بالإنسان إلى أسلوب العنف في معالجة المشكلات والعلاقات الشائكة، ويمكن أن تكون هذه الغريزة فردية كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأفراد، ويمكن أن تكون ذات طابع جماعي، وهنا سوف يتحول العنف...
هناك غريزة من ضمن غرائز الإنسان، سمِّيَت من قبل العلماء المختصّين بـ (غريزة التدمير)، وهي تدفع بالإنسان إلى أسلوب العنف في معالجة المشكلات والعلاقات الشائكة، ويمكن أن تكون هذه الغريزة فردية كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأفراد، ويمكن أن تكون ذات طابع جماعي، وهنا سوف يتحول العنف إلى حروب وتصادمات بين الدول، لا تُبقي ولا تذر!.
السلوك العنيف لا يعود بأية منفعة على أحد، حتى من يعتمد هذا الأسلوب سوف يعاني من نتائجه، بل هو أول من يتلقى ضربات أفعاله العنيفة، وعندما نسأل أحد المختصين عن تقديم وصف دقيق لعالمِنا الذي نعيشه الآن، فإنْ كان واقعياً سوف يؤكد على أن العنف هو العلامة الفارقة لهذا العالم الذي تتأجّجُ فيه الاضطرابات والأزمات أزمة بعد أخرى، ولعله من أخطر القضايا التي واجهتها البشرية، عبر رحلتها الطويلة منذ نشأتها على البسيطة والى الآن، هي قضية العنف وما يتعرض له الإنسان من أشكال الموت والتدمير جرّاء العنف المتزايد في المعمورة، ومع كل الجهود التي يبذلها مفكرون الإصلاح والفلاسفة الايجابيون، إلا أن وتيرة التطرف لا تزال تشكل خطراً متنامياً على الوجود الإنساني برمته، ما يعني أننا أما مسؤولية كبرى، مهمتها ترويض العنف على المستوى الفردي والجمعي في وقت واحد، وهذا يشمل العلاقات الفردية ويشمل المجتمع كلّه.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، عُرف باشتغاله المستمر على نبذ العنف من خلال نظريته المعروفة عن (اللاعف)، وقد حارب سماحته العنف بالقول والأفعال، فقد فجاء في نظرية اللاعنف: إن (التاريخ أعظم سجل دوّن للإنسانية على صفحاتها أغرب أساليب العنف والعدوان والتعسف الفردي تجاه الأفراد، والجماعي ضد الشعوب والمجتمعات).
وقد لاحظ الإمام الشيرازي تصاعد وتيرة العنف محلّياً عالميا، فدرس هذه الظاهرة وحددّ بدقة أسبابها، وطرح الحلول والمعالجات المناسبة للحد منها، بيد أن قادة العالم بما فيهم المسلمين لم يبذلوا الجهد المطلوب لدراستها وتنفيذها، ولعل الخطر الكبير الذي يمثله السلوك التصادمي على البشرية، يتمثل باستفحال هذه الظاهرة في المجتمع، فتتحول الى منهج حياة وسلوك وتربية، ليغدو العنف والاحتراب والاقتتال هو جوهر الحياة البشرية!، في حين أن المطلوب هو الارتقاء بالإنسان لكي ينبذ التربية بالعنف، ويهتدي الى سبل التعايش، وينبذ كل أشكال التطرف، وذلك من خلال زرع بذور الخير ومبادئ السلام في نفوس الناس، أفرادا وجماعات، وهذه المهمة على الرغم من صعوبتها والمشكلات التي تعترض تحقيقها، إلا أن المنظمات والجهات المعنية في المجتمع، ينبغي أن تضع الخطوات اللازمة لنشر روح الألفة والسلام والتعايش بين الناس، بديلا عن العنف وبعيدا عن أشكال التصادم والاحتراب، على أن يتم تحديد الأهداف والوسائل القادرة على تحقيقها.
فالهدف هو تحييد العنف وإطفاء البؤر التي تساعد على استمراره، أما الوسائل فيوجد خطوات مهمة وأهمها ترويض الفكر وإعادة صياغة المتطرف منه وتحويل السلوك البشري العدواني التصادمي الى سلوك مسالم، إذ لا تزال قضية التربية بالعنف تشغل العالم اجمع، بسبب مظاهر التطرف المتنامية في مناطق كثيرة وحساسة من العالم، ولعل الخطر الكبير يكمن في الجماعات المتطرفة التي تصاعدت واشتدّ عودها، وأخذت تخطط للعنف وتنفذه بوسائل وطرق وأدوات شتى. وهو ما حدا بالإمام الشيرازي الى الوقوف المباشر بالضد منها، فكرا وسلوكا، ولم يألُ جهدا في مسعاه طوال وجوده على قيد الحياة.
وعلى الرغم من أن دعوات نبذ العنف تكرّرت وتطورت وبُثَّتْ عبر وسائل إعلام متطورة، إلا أن أساليب العنف لا تزال تؤجِّج العلاقات بين الدول وبين الجماعات الأصغر وبين الأفراد أيضا.
وهذا ما حدا بالإمام الشيرازي إلى القول في نظريته المعروفة عن اللاعنف: (إنّ ما يثير الدهشة هو أن صورة العنف أصبحت أكثر شدّة وضراوة، وكذلك أكثر تكراراً، ورغم أن دعاة اللاعنف ما زالوا يدعون الإنسانية إلى الركون للعقل واللجوء إلى السبل السلمية؛ إلا أن دعاة العنف يضعون قيمة الإنسان وحريته وكرامته من الأولويات في فض التشابكات، وأول دعاة السلم هو الدين الإسلامي إذا أخذنا بنظر الاعتبار دعوته إلى اللاعنف كإستراتيجية لها قواعدها وأصولها وتنظيرها الخاص بها).
اللاعنف واستمرارية هاجس البناء
خُلِق الإنسان للعمل وليس للعراك أو التصادم، وإن حلّت أساليب اللاعنف في حياة الناس انشغلت في البناء، وابتعدت عن العداوات، ولعل البند الأكثر عنفا يتمثل بالأسلوب التصادمي الفردي أو الجمعي، حيث يلجأ إليه أناس عنيفون لمعالجة مشاكلهم، مبتعدين عن الجنوح الى السلم كما يدعو الإسلام الى ذلك، ولقد جاءت دعوة الإمام الشيرازي الى بناء المجتمع بروح التآخي والاحترام ونبذ أسلوب التصادم في معظم أفكاره ومؤلفاته، لاسيما في (نظرية اللاعنف)، لكي يبتعد الناس عن التطرف، ولكي يكون هاجسهم البناء والتطور فحسب، وليس الانشغال بتوافه الأمور، والاحتراب الذي يشغل المجتمع عن المضي قُدما الى أمام، لذلك يحث الإمام الشيرازي على عدم التسبب بالأذى للآخرين، والتعامل بالحسنى واللين معهم، وحتما سوف يكون الناتج لصالح الجميع، فمن تحسن له وتُبسط يديك إليه وتصفح عنه، لاشك أن قلبه سوف يلين ويأتي الى الصلح حيث يتم إطفاء جذوة العنف والحروب بكل أشكالِها.
في نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، هنالك ركائز ومصاديق معروفة منها العفو، وكذلك الّلين وهو أحد أهم المبادئ التي اعتمدها قائد المسلمين الأعظم النبي محمد (ص) في سياساته كافة.
أما التعريف اللاعنف عند الإمام الشيرازي في نظريته المعروفة : (فهو أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هداماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج). لذا هناك تركيز على أهمية تجنب الأذى المادي، أو العدوان باللفظ، حتى لا يتحول ذلك الى تربية أو سلوك عام يمارسه الجميع. لاسيما أن التصادم سلوك ينبع من غريزة التدمير والموت لدى الجماعات المتطرفة. إذ جاء في نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي: (إن السلوك العدواني والعنف وإيذاء الغير أو الذات، وصور عدة منها عن طريق العنف الجسدي. والعدوان باللفظ: الكيد والإيقاع والتشهير ومختلف السلوكيات المتوقع حدوثها تحت هذا المفهوم ناتجة عن غريزة التدمير أو الموت).
تجنّب الغضّب يقودنا إلى عالم مستقر
من أسباب العنف عم القدرة على كبح الغضب والسيطرة على النفس، وهو ما يشكل سببا رئيساً لاندلاع العنف بين الدول والأفراد، وقد سعى الإمام الشيرازي لتغيير الواقع العالمي المضطرب، وأكّد سماحته على أهمية تغيير الثقافة العالمية السائدة والتي تقوم على أفكار العنف الجماعي والفردي لاسيما في ظل احتدم تضارب الإرادات من أجل الاستحواذ والسيطرة على ثروات العالم التي باتت بالفعل في أيدي القلة القليلة من مجموع البشر، ولا شك في القول أنه من مظاهر ارتقاء الإنسان والمجتمع، أن يتحلّى بالقدرة على تبادر الآراء مع الآخر، وأن يكون مستعدا لتبادل الحوار بدلا عن الوسائل المؤذية ماديا أو معنويا، لذلك من أهم أشكال العلاقات الإنسانية التي حث عليها الإسلام، التعامل المتبادّل بالحسنى، فهذا المبدأ يجنب الناس والمجتمع شدّة التضارب في الآراء، ويخفف من حالات الاحتقان، ويربي المجتمع على التربية الهادئة التي تنبذ الأسلوب التصادمي في العلاقات الاجتماعية، أو السياسة، أو سواها، فالحوار والتربية بنبذ العنف والاحتواء، والابتعاد عن بؤر التطرف، والقضاء على المسببات التي تزيد من التوتر العالمي، سواء بين الدول أو بين الجماعات الصغيرة أو حتى بين الأفراد، فالعنف لا يصب في صالح أحد قط.
وهذه هي بعض المرتكزات الفكرية، الأخلاقية، المبدئية، التي ارتكزت عليها رؤية الإمام الشيرازي، حول طبيعة العلاقات المجتمعية التي ينبغي أن ترفض الاستبداد، والإرهاب، وتنبذ إراقة الدماء، وتلجأ الى الشورى وتبادل الرأي، والابتعاد عن أسلوب التصادم، على أن يتم نشر هذا الأسلوب كمنهج سلوك للمجتمع بكل مكوناته، فيحلّ الانسجام بديلا عن التصادم في إدارة شؤون الناس كافة، وهذا ما ركّز عليه بقوة سماحة الإمام الشيرازي عندما ضمّن كل هذه الأفكار البناء في نظريته التي رفضت العنف وشجّعت الإنسان أينما كان على التواؤم والتناغم والتعاون والتعايش وكل القيم التي تطفئ الفتن والضغائن والغلّ.
لذا يقول الإمام الشيرازي: إن (الإسلام ينبذ العنف والقسوة والإرهاب قولاً وفعلاً، وقد دعا إلى اللاعنف كبديل لحلول ما يواجه الأمة من أزمات ومشاكل ومصاعب).
بالنتيجة يعيش العالم أوضاعا مضطربة، يطغي عليها مشهد العنف والتطرف واشتعال الغضب، وهي علامات ومؤشرات تحذيرية، تدعو الجميع، إلى دراسة متفحصّة للأسباب والنتائج، وليس هناك حلّ سحري لمشكلات عالمنا المحتقن سوى الإيمان باللاعنف كطريق واضح المعالم، يؤدي بالبشرية إلى التعايش والاستقرار، والانشغال بالتقدم العلمي والتكنولوجي وتأمين سبل العيش التي تجنّب البشرية مظاهر ومشاهد وأساليب ونتائج العنف المدمِّرة.
اضف تعليق