نحن بحاجة إلى مبدأ اللاعنف ونحن نسعى لعبور المرحلة الحرجة التي تهدد وجودنا بالكامل، إنها ثقافة الانتصار للحياة، بدلا من إشاعة الظلام والموت عبر دوّامات العنف التي يسعى بعض أصحاب العقول المغلقة إشاعتها بين العراقيين، وهو ما ينبغي التنبّه له، وعدم التخلي عن هذه المسؤولية الشرعية والأخلاقية...
(الرفق رأس الحكمة) جملة وردت في خطبة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وهي واضحة في معناها وفحواها، كونها تصدر عن قائد تاريخي خلَّدهُ منهج اللاعنف، واستطاع بهذا المبدأ أن يبني أعظم دولة مستعينا بسياسة العفو والرفق، وعدم مقابلة العنف بعنف مقابل، لأنّ هذا الأسلوب العنيف يصنع دوّامة لا سبيل للخلاص منها، كما يحدث اليوم في العراق وفي دول عربية عديدة، حيث لا تزال مطحنة العنف تعصف بشعوبها.
في العراق نحن بأمسّ الحاجة إلى خارطة طريق تُخرجنا من دوّامة العنف، لاسيما سلسلة الاعتداءات التي يتعرض لها المتظاهرون المسالمون، كما حدث مؤخرا في الناصرية وفي بغداد، حيث تم التعامل مع المتظاهرين بأساليب عنيفة وصلت إلى حد الطعن وإطلاق النار على العزّل، وهو منهج الخائفين اليائسين، كونه لن يقود أصحابه ومن يتبنّونه إلى أهدافهم، على عكس السلم واللين الذي يحصر أساليب العنف ويقضي عليها، لأن السلم ومنهج اللاعنف ينتمي إلى الإيمان.
قال الإمام أبي جعفر عليه السلام: (إنّ لكلّ شيء قفل، وقفل الإيمان الرفق).
يوجد ترابط وثيق بين ثلاثي (الإيمان، الرفق، التعقّل)، وهذه كلها مبادئ يمكن من خلالها بناء الحياة، وليس تهديدها أو تهديمها، فمن يسعى إلى الانتصار في حياته، لا سبيل له نحو هذا الهدف إلا بالسلم، والرفق، والاحتكام إلى منطق العقل والسلام، ينطبق هذا على سياسات الدول والحكومات والأحزاب والأفراد أيضا.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الثمين الموسوم بـ (اللاعنف في الإسلام):
(كلّ من يلتزم بقانون السلم واللاعنف فإنه حتماً ينتصر في الحياة).
هناك مصاديق تؤكد تفوّق اللاعنف على سواه من الأساليب في زاوية تطوير الحياة أو تحجيمها، وتوجد أدلة تاريخية وواقعية على هذا التفوّق، فإذا حاولنا عقد مقارنة بين منهج اللاعنف من جهة وبين مبدأ القوة الهائلة، وما هي النتائج التي تولَّدت عنهما، فإننا سوف نصل عبر هذه المقارنة إلى محصّلة تقرّ قطعيّا بتفوّق منهج اللاعنف على القوة، ومن هذه الأمثلة على تفوق السلم والعفو ثورة الزعيم الهندي غاندي الذي تمكن بأسلوب ومنهج السلم من هزيمة الإمبراطورية البريطانية العظمى في حينها حينما كانت تستعمر الهند.
تجارب تاريخية لمساوئ العنف
مثالنا على هزيمة القوة الغاشمة والهائلة، ما انتهى إليه هتلر صاحب أعتى قوة عسكرية عرفها التاريخ، وهو الذي حاول بمنهجه العنيف أن يسيطر على العالم، لكن ثبت أنه كان على وهم، وأن الشخصية الدكتاتورية على مر التاريخ خاسرة ومهزومة، ومن يظن أنه بالقوة والاعتداء والعنف يمكنه إخضاع الناس واستعبادهم وإلحاق الهزيمة بهم، فإنه بالنتيجة سيلمس هزيمته بيديه وسيراها بأمّ عينيه، وحينئذ لن يفيده الألم أو الندم على ما فاته.
القائد والإنسان عموما، إذا اعتمد العفو عمّن أخطأ في حقّه وأساء إليه، فهذا يعني أنه مؤمن بمبدأ اللاعنف وملتزم به، لذا سوف يحصد نتائج إيمانه بهذا المنهج الذي آمن به واعتمده القادة العظماء في التاريخ، لكن العفو وحده – رغم أهميته- ليس مصداقاً وحيدا للسلم والإيمان باللاعنف، بل هناك ثوابت أخرى داعمة لهذا المنهج، منها عدمّ رد الإساءة، مع التمسك بالصبر والتأني والتسامح.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(إذا كان العفو من أبرز مصاديق اللاّعنف، فإنّ هناك مصاديق أُخرى لا تقلّ عنه أهميّة، منها: الحلم والدأب على غضّ الطرف عن إساءة الآخرين، ومقابلة تصرّفاتهم العنيفة بالحلم والسماحة).
من الصفات العظيمة التي يتميز بها رجالات اللاعنف عبر التاريخ، أنهم رغم امتلاكهم مقومات القوة لكنهم لم يعتمدوها في صراعاتهم (المعنوية) مع أضدادهم، وهناك صفة عظيمة أخرى يتحلى بها رجالات وقادة اللاعنف، تتمثل بعدم تشبثهم بالسلطة بكل ما تشمله من امتيازات ومغانم ونفوذ وأموال وقوة، فالسلطة لا تعني لهؤلاء العظماء شيئا، وما يعنيهم بقوة إنقاذ شعوبهم من الأغلال بمختلف أشكالها، على الرغم من أنهم قدموا حياتهم وأعمارهم ثمنا لإنقاذ شعوبهم.
شخصيات خلّدها مبدأ اللاعنف
مثال ذلك نلسن مانديلا الذي تعلّم اللاعنف من سيرة الرسول الأكرم، فمانديلا هذا السياسي الذي كافح كل ما ألحقه البيض بقومه السود، من خلال انتهاجه مبدأ اللاعنف، وهو الذي تعرض للسجن والمطاردة والتعذيب، لكنه حين انتصر بمنهج اللاعنف على أعدائه وأعداء شعبه، ووصل إلى السلطة، بقي أمينا لمبدئه الذي آمن به منذ أوائل رحلته في معترك العمل السياسي، فقد بقي سلميّا مع من اعتقلوه وعذبوه وطاردوه وألقوه في السجن قرابة ثلاثة عقود، كما أنه صاحب الفضل على شعبه من السود والبيض في إنهاء العنف والعداوة، وبعد أن عالج كل شيء باللاعنف ترك السلطة ولم يتمسك بها لأنه أعلى شأناً من السلطة.
الإمام الشيرازي يقول: (الكثير من شخصيات التاريخ تعلَّم من منهجية الرسول صلى الله عليه وآله في اللاعنف على غرار (غاندي) و (منديلا) وغيرهما).
النخب وقادة المجتمع عليهم أن يعوا أهمية مبدأ اللاعنف، وأن يفهموا ما هي النتائج التي سيكسبونها إذا استطاعوا تثقيف الأفراد والمكونات والساسة بالأخص على اللاعنف وجعلوا منه ثقافة جمعية، لاسيما أننا كمسلمين وعراقيين نعاني اليوم من موجات عنيفة متلاحقة تهدف إلى زعزعة الأمن في بلادنا، عبر العنف والعنف المضاد، ومن الملاحَظ أننا عشنا العنف عبر حروب متلاحقة، خارجية وداخلية، فصارت مشاهد القتل وسفك الدماء والحرائق مناظر مألوفة لدى الناس، لذلك علينا التمسك أكثر بمبدأ اللاعنف، واستخدام العفو واللين والرفق في تعاملاتنا العملية والأسرية وفي كافة الأنشطة الأخرى.
يقول الإمام الشيرازي:
(إذا أردنا إنهاض المسلمين وهداية غيرهم فإننا نحتاج إلى نفس منهج اللاعنف الذي ورد في بعض الروايات نصّاً، تارةً وأخرى بلفظ السلم والرفق واللين ونحوها في جملة من الروايات الأُخر).
في المرحلة التي يعيشها المسلمون اليوم، ومنهم العراقيون، يجب العودة إلى القيم التي ساعدت على نهوضنا وبناء الشخصية المسالمة الفعالة المستعدة للعفو والرفق، والابتعاد عن أسلوب القطيع العاطفي الذي يقوم على العصبية والتسرّع والقفز على الحقائق، لدرجة الوقوع في الأخطاء الفادحة التي تجعل العنف هو الوسيلة الأولى في معالجة التعقيدات المختلفة.
العفو، ترك الظلم، عدم الإساءة، صلة الرحم، الإحسان، صفات علينا كعراقيين أن نتمسك بها، وأن تثقّف بها الجميع، وهي مهمة كبيرة يتصدى لها العلماء والمثقفون والمفكرون والقادة الذين يؤمنون باللاعنف كطريق يقودنا إلى النهوض مجدّدا، معتمدين في ذلك على إرثنا الزاخر الذي تركه لنا نبينا صلى الله عليه وآله، والدوحة النبوية من أئمتنا الأطهار الذين كان السلم والعفو والرفق منهجهم الثابت في الحياة، فلنتعلّم منهم وندرس سيَرِهم جيدا ونأخذ دروس اللاعنف من مناهلهم ومدارسهم.
حول إتقان هذه الخصيصة والتمسك بها، يذكّرنا الإمام الشيرازي بما قالهُ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في خطبة له: (خير خلائق الدنيا والآخرة، العفو عمّن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاء من حرمك).
كم نحن بحاجة إلى مبدأ اللاعنف ونحن نسعى لعبور المرحلة الحرجة التي تهدد وجودنا بالكامل، إنها ثقافة الانتصار للحياة، بدلا من إشاعة الظلام والموت عبر دوّامات العنف التي يسعى بعض أصحاب العقول المغلقة إشاعتها بين العراقيين، وهو ما ينبغي التنبّه له، وعدم التخلي عن هذه المسؤولية الشرعية والأخلاقية، ولا نجاة لنا جميعا إلا بالعودة إلى منهج اللاعنف وثقافة العفو واللين والسلام.
اضف تعليق