لا يوجد تجمّع بشري في بقعة أرض صغيرة كما يحدث في زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، كل التجمعات العالمية أقل بكثير قياسا للمكان والاستمرارية الزمنية المتواصلة، لا يحدث هذا جزافا ولا مصادفة، هناك فكر عظيم منبعه الامتداد النبوي متمثلا بالإمام الحسين عليه السلام...
لا يوجد تجمّع بشري في بقعة أرض صغيرة كما يحدث في زيارة الأربعين في كربلاء المقدسة، كل التجمعات العالمية أقل بكثير قياسا للمكان والاستمرارية الزمنية المتواصلة، لا يحدث هذا جزافا ولا مصادفة، هناك فكر عظيم منبعه الامتداد النبوي متمثلا بالإمام الحسين عليه السلام، هو الذي يغذي هذا الزخم المتصاعد من الكمّ البشري المؤمن بالمبادئ والقيم الحسينية التي يمكن لها أن توقظ المسلمين من غفوتهم الطويلة، فيما لو درسوا وفهموا هذه المبادئ وأحسنوا تطبيقها في إدارة تفاصيل حياتهم وبلدانهم.
يحث على هذه النتيجة، أي يقظة المسلمين من حالة السبات التي تكبّل قدراتهم، ذلك السعي لتغيير الأنفس والقلوب والتعامل، والقضاء التام على مسببات الانحراف، والتناحر، وموجبات الفتنة التي تُثار بين المسلمين بأدوات داخلية وخارجية تخطط لها وتمولها دوائر ودول لا ترغب بعودة المسلمين إلى الحاضرة العالمية مجددا، ومع أن مفكّري وعلماء وقادة المسلمين يعون ذلك جيدا، لكنهم عاجزون عن الوحدة، على الرغم من أن زيارة واحدة هي أربعينية الإمام الحسين تجمع الملايين منهم في بقعة صغيرة واحدة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (قبس من شعاع الإمام الحسين عليه السلام):
(إن الإمام الحسين (عليه السلام) أراد أن يبث روح الإيمان والحق في الأمة، لتنهض من جديد، كما كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنه كان يرى أن الدين على وشك أن يحرف، فأراد أن يعيد الدين غضاً طرياً).
من البداهة بمكان حين يجتمع الملايين في مناسبة دينية واحدة من جميع أصقاع العالم، فإن هذا الحديث له دلالة عميقة على وحدة المسلمين، وإمكانية القضاء على التطرف وأسباب التناحر والفتن فيما ينهم، لأن الانحراف الديني لا يمكن أن يكون في صالح أحد، وقد رصد الإمام الحسين ظاهرة الطغيان الأموي في ممارسة التسلط على الأمة، ليس التسلط والطغيان فحسب، وإنما ظهرت أساليب مدمرة للدين وللأمة على حد سواء من خلال نشر الرذيلة في مجالات الحياة كافة، ما أدى الى انتشار الفساد في إدارة السلطة والتجاوز على حقوق الناس والاستحواذ على ثرواتهم من دون وجه حق، يُضاف إلى ذلك استهداف الحريات.
لماذا يتمادى الفاسدون بفسادهم؟
وفي حال يستأسد الطغيان، ويتمادى الفساد والفاسدون في السلطة، لابد من ثورة وثائرين، هكذا سعى الإمام عليه السلام من خلال خروجه البطولي من الحجاز وإعلانه للثورة على الانحراف الأموي الى استنهاض روح الأمة مجددا، بعد أن مالت الى الصمت والاستكانة والقبول بما يمليه السلطان الأموي من انحراف على المسلمين كافة، فسادت الفوضى في حياة المسلمين، وضعفت الأمة وانتهكت حقوقها وأعراضها ودماءها، وصار لزاما على الأمة أن تنهض من هذا السبات، وكانت بحاجة الى من يوقظها من غفوتها، لتجيء زيارة الأربعين وشعائرها المقدسة كي تذكّر المسلمين بمصادر قوَّتهم ووحدتهم وقدرتهم على مواجهة التخلف والفوضى.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا المنحى فيقول:
(ليست هذه الفوضى التي تشاهد في بلاد الإسلام دليلاً على اليأس، بل حالها حال التثاؤب الذي يتصف به الناعس بعد نوم طويل، حيث أن التثاؤب في هذا الحال، دليل الشروع في اليقظة).
مستلزمات النهوض متوافرة على الأرض، والظروف مواتية في ظل بروز ظواهر الفرقة والتمسك بالسلطة والانحراف نحو المصالح الآنية، لذلك يرى الإمام الشيرازي بوادر نهوض بين أمة المسلمين لاسيما ما تمنحه حالات الوحدة بينهم عبر زيارة الأربعين التي تستقطبهم من جميع دول العالم، ولكن هذا النهوض يستدعي توجيه الطاقات والمستلزمات بالصورة الصحيحة لتحقيق الأهداف المأمولة، وهذا يتطلب السعي والتخطيط والابتكار، والسعي المستمر لوأد مصادر الفتنة وأسبابها وصنع ظروف التقارب الإسلامي وتذويب جليد الخلافات فيما بينهم.
وفيما لو أصبح قادة المسلمين من الذكاء بحيث يطفئوا نيران الفتن ويكبحوا أسباب الخلافات المفتعلة من الأعداء، فإنهم سوف يتصدرون صدارة العالم، لهذا يرى الإمام الشيرازي أن نهوض المسلمين أمر محتوم، ولكنه محكوم بتنظيم الطاقات والقدرات، واستخدامها بأفضل ما يمكن، مما يقودهم ويقربّهم إلى الوحدة ويفوّت فرص الضغينة فيما بينهم، على أن يدعم هذا التوجه، التقارب الصادق والتخطيط العلمي السليم واعتماد ابتكار الحلول والبرامج الناجعة:
يقول الإمام الشيرازي عن ذلك:
(الآن أخذ المسلمون يتثاءبون للنهوض، فإذا تمكنوا من وضع وابتكار برامج صحيحة للنهوض، لوصلوا إلى هدفهم السامي بإذن الله تعالى).
النهضة الحسينية نبراس التحرر
لا يمكن حصر مردودات الفكر الحسيني بفئة بشرية أو دينية معينة، ولا يصح احتكار نتائج الجمع الأربعيني بأناس بعينهم، فالنهضة الحسينية وإن كان هدفها الإسلام والمسلمين، وإعادة الأمور إلى نصابها، إلا أن القيم التي أنتجتها هذه النهضة لم تنحصر في إطار المسلمين وحدهم، إنما كانت وستبقى ملكا للإنسانية أجمع، ولهذا بقيت نهضة الإمام الحسين عليه السلام نموذجا مضيئا يستقي منه أحرار العالم مدادهم وقدرتهم على مواصلة دحر الطغيان والانتصار للحرية.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن نهضة الإمام الحسين عليه السلام كانت وستبقى نبراساً لسائر النهضات التحريرية في العالم ضد الظالمين، وكانت هي الانفجار العظيم الذي هزّ عرش كل الطغاة المستبدين).
في واقعنا المحتدم، واقع المسلمين، ليس أمامنا طريق آخر، ولا توجد فرص أخرى كثيرة، نحن ملزمون باستثمار زيارة الأربعين المقدسة ونتائجها وانعكاساتها، كما أننا يجب أن نهتدي بالفكر الحسيني ونلتزم المبادئ الحسينية منهجا تطبيقيا في إدارة شؤوننا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لقد كانت ولا تزال مبادئ هذه النهضة نافذة مفتوحة للأجيال الحالية والقادمة كي تستنير بمبادئها وقيمها لصنع الحياة الأفضل للإنسان، ولكي يكسب الصراع ضد الحكام الطغاة، تحقيقا لمجتمع العزة والكرامة وحفظ الحقوق من تجاوزات الحكام الظالمين، لاسيما اذا عرفنا أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول الأكرم، لم يكن يعاني من مشكلات العصر الراهن، بل أن أعداء المسلمين هم من كان يعاني من هذه المشكلات، وقد كان المسلمون يتصدرون الأمم الأخرى في العلم والإبداع والترجمة، في حين كان الآخرون يعانون من الجهل والتخلف، ولكن بعد أن ترك المسلمون قيم الإسلام وانحرف الحكام من مبادئ العدل الى نزعة الظلم، وهذا ما يحتّم عليهم فهم الواقع واقتناص الزلات القاتلة، ومعالجتها، بعيدا عن الأحقاد والكراهية التي ستكون سببا في زيادة الاحتقان الإسلامي الإسلامي.
الإمام الشيرازي يؤكد على أن:
(الإمام الحسين عليه السلام عبر نهضته المباركة دلّ الأجيال على الطريق وأوضح عن السبيل لعلاج مشاكل المجتمع والحصول على سعادة الدنيا وكرامة الآخرة، وحينما كان المجتمع الإسلامي يلتزم شيئاً ما بتلك التعاليم الإسلامية، كان يعيش العزة والسعادة والرفاه والكرامة، ولم يكن يعرف شيئاً من هذه المشاكل الموجودة اليوم).
هذا بالضبط ما يُلزم المسلمين باعتماد المنهج الحسيني، واستثمار الفرص المتاحة كافة، ومن دون تأخير لإحداث التغيير اللازم، لاسيما قطف ثمار زيارة الأربعين سنويا، وتوظيف هذا التجمع الإسلامي الهائل في كربلاء المقدسة، خصوصا أن الزائرين يُقبلون من مشارق الأرض ومغاربها، وهم من أعراق مختلفة تجمعهم روح الإسلام ومبادئ الحسين عليه السلام ونهضته التي آن لمبادئها وقيمها أن تنعكس على المسلمين في عالم اليوم المحتقن.
اضف تعليق