يتساءل الكثير في عالمنا اليوم عن الجدوى العملية للنزاهة والاستقامة في محيط يعجّ بالفساد والانحراف بأشكال مختلفة؟ ويذهب البعض الى نظرية يروج لها البعض بأن الالتزام بهكذا نمط من السلوك يلحق الضرر بصاحبه، فربما يفقد فرصة عمله، او يسبب له مشاكل في علاقاته الاجتماعية...
مقدمة:
أن يكون الانسان نزيهاً في فكره وعلاقاته مع الآخرين، وأن يتحلّى بالطيب من القول، ويعفّ عما ينافي الاخلاق والمروءة، لهو أمر مطلوب في معظم المجتمعات بالعالم، كون الانسان، وانطلاقاً من فطرته السليمة، يرنو دائماً الى الخير والحق، وينجذب الى الصفات الحسنة، بغض النظر عن العقيدة التي يحملها ابناء هذا المجتمع، لذا فان من يتحلّى بصفات كهذه، يطلق عليه في اي مكان بالعالم بانه "عصامي"، او نزيه، بعكس الفاسد والانتهازي.
في هذا المقطع الصوتي القصير من محاضرة لسماحة المرجع الديني الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- يحدد سماحته المصلطح الديني وهو "الاستقامة" الوارد في القرآن الكريم، مؤكداً الجانب المعنوي في القضية، على أن يكون الايمان المنطلق والدافع الاساس لأي استقامة في حياة الانسان.
لنستمع، ثم نقرأ ما جاء في هذا المقطع الصوتي:
الاستقامة في الاخلاق أولاً:
"على الانسان ان يبعد عن ذهنه الافكار المؤدية الى الاعمال غير الاخلاقية، وهذا يشمل الجوارح كلها بأن يجعل السمع والبصر والفؤاد في حالة استقامة دائمة لا تحيد عن الطريق القويم. كما عليه أن يكون مستقيماً في تعامله مع الآخرين، فلا يصدر منه شيء يتعارض مع القيم الاخلاقية والانسانية.
هذه الاستقامة يجب ان تكون نابعة من القلب، أي أن تكون نابعة من الايمان، لا أن تكون بدافع الخشية من العقوبة او الخسارة، أو الحذر من مراقبة الأهل، او الاصدقاء، او المسؤول في محيط العمل والدراسة، هذا النوع من الاستقامة والالتزام بالحدود لا تنفع صاحبها بشيء".
من هو المستقيم؟!
من حيث المبدأ فان الاستقامة؛ كصفة اجتماعية يحبذها الجميع ويدعوها لانفسهم، فلا أحد يرضى بخلافها، إنما المشكلة التي تقفز الى الامام هي معيار هذه الاستقامة، وكيف تكون؟ وفي أية ظروف؟
فحتى يكون الانسان مستقيماً بشكل يحقق أقصى درجات النجاح في علاقاته الاجتماعية والمهنية، عليه ان يجعل القيم والمبادئ هو المحور والمعيار لتقييم الآخرين، وايضاً لتفسير الظواهر والحالات في حياته، بينما نلاحظ هنالك من يجعل نفسه المحور والمعيار، ويطلب من الناس ان يواكبوه ويوافقوا رأيه وذوقه وطريقة تفكيره، ولذا نجد القرآن الكريم يؤكد على المعيار الحق، وهو منظومة القيم السماوية ومنها التواضع، تقول الآية الكريمة في سورة هود: {فَاسْتَقِمْ كَمَآ اُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ}، والخطاب موجه الى الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ثم الى المسلمين من الطامحين الى إصلاح ذواتهم وتكريس الايمان في نفوسهم.
فالاستقامة هنا لا تكون كما يهوى صاحبها، بل وفق المعايير القيمية الخاصة التي من شأنها ان تضفي المصداقية على سلوك الانسان وثقافته، فالتواضع والورع وغيرها من الصفات والخصال، تمثل قيم ثابتة غير قابلة للتحوير والتغيير، بينما المزاج والتصورات الذهنية والمصالح الخاصة معرضة للتغيير في كل لحظة، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الشيرازي بأن الاستقامة في طريق الدين والاخلاق ينبغي ان تكون بدافع ذاتي خالص، ينطلق من الايمان العميق، وليس دفعاً للضرر من مسؤول الدائرة الحكومية، او تجنب السمعة السيئة من سكان المنطقة السكنية، او خشية نظرات الاهل والاقارب، فربما يكون الانسان مستقيماً في تدينه وأخلاقه من اجل ضمان فرصة عمل معينة، او لكسب ود شخص ما، فاذا ما انتقل مكان عمله الى بلد آخر، لاسيما اذا كان البلد في اوربا او اميركا –مثلاً- آنئذ ينكشف المستور وتتضح حقيقة مكامن هذا الانسان المدّعي للاستقامة.
ما فائدة الانسان النزيه اذا كان ضعيفاً؟!
يتسائل الكثير في عالمنا اليوم عن الجدوى العملية للنزاهة والاستقامة في محيط يعجّ بالفساد والانحراف بأشكال مختلفة؟ ويذهب البعض الى نظرية يروج لها البعض بأن الالتزام بهكذا نمط من السلوك يلحق الضرر بصاحبه، فربما يفقد فرصة عمله، او يسبب له مشاكل في علاقاته الاجتماعية، حتى بات الكثير من الناس يجزمون بعدم وجود النزيه في دوائر الدولة، في عديد البلاد الاسلامية، رغم الشعارات والادعاءات الموجودة.
الاستقامة التي يريدها الله –تعالى- للانسان هي تلك القاعدة الرصينة للعلاقات الاجتماعية الناجحة والمثمرة لكل مفردات الرقي والتقدم، وهذه تمثل رؤية بعيدة المدى لمن "ألقى السمع وهو شهيد"، وتبصّر بالعواقب وتحلّى ببعد نظر، أما من يكتفي بيومه وما يحوزه من مكاسب حسب المتطلبات، فانه لن يسلم من عواقب لا تأثير له عليها، بل يكون المتلقي وحسب، فعلى الصعيد السياسي نلاحظ السقوط المريع للاحزاب السياسية والتنظيمات المسلحة في دهاليز المخابرات والتحالفات المشبوهة، وعلى الصعيد الاجتماعي السقوط المريع الآخر في دهاليز التقليد القاتل لانماط حياة بعيدة عن قيمهم وثقافتهم، كما يحصل مع تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، ونفس الامر نلاحظه على الصعيد الاقتصادي.
بالمقابل نلاحظ المستقيمين في حياتهم هم الفائزون؛ إن عاجلاً أو آجلاً، فالتاريخ يخلّد دائماً الصامدون والمضحون في سوح المعارك، او في ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية، وعندما تظهر الشعوب المتقدمة صناعياً وثقافياً، فانها تشير بالعرفان الى الآباء والاجداد الذين فضلوا قيم التضحية والاستقامة ومصالح شعوبهم وأمتهم على مصالحهم الخاصة، وغلّبوا استشراف المستقبل على النظرة الضيقة لما يحيط بهم وحسب.
ثم إن الاسلام لطالما أكد ودعا الى القوة والمنعة، ونهى عن أي نوع من التراخي والتخاذل، ففي الحديث الشريف عن الامام الصادق، عليه السلام: "المؤمن القوي خير من الؤمن الضعيف"، وفي حديث آخر له، عليه السلام: "قلب المؤمن كالجبل، وإن من الجبل ما يُقدّ منه، وقلب المؤمن لا يُقدّ منه"، وهذه القوة هي التي تبعث في المجتمع والامة القوة والتماسك في السلوك وحتى طريقة التفكير والحثّ على اعتماد المعايير الثابتة غير المهزوزة والقائمة على قيم الدين والاخلاق.
ان الذي لا يستقيم باتجاه الحق وقيمه، لابد أن يتجه وبشكل مستقيم ايضاً نحو الباطل، وإن غلفت هذا الباطل مظاهر الرقي والتطور، لانه سيكون محتاجاً اليهم في توفير الأمن والاستقرار، وايضاً تغطية حاجاته اليومية، وهذا ما تحذرنا منه الآية الكريمة اللاحقة في نفس السورة (هود): {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ}.
اضف تعليق