الأمم والمجتمعات الحيّة تحاول بجدية، أن تستثمر جميل الوسائل والسبل كي تواكب مستجدات الحاضر، ولا تقبل أن تبقى في أواخر الركب، بل لا بد أن تكون المجتمعات الذكية في المقدمة، وهذا المركز لا يحتلّه كل من هب ودب، بل غالبا ما يكون من حصة الأمم الراقية، تلك التي لا تثابر وتكد وتسعى بكل الطرق والأساليب التي تمنحها الارتقاء والامتياز على سواها، ولعل قضية التنبّؤ بالمستقبل وحيثياته واحداثه يقع في المقدمة من اهتمامات الدول والمجتمعات المتطورة، لسبب بسيط أن التنبؤ بالمستقبل تجنبنا من المفاجآت غير المحسوبة.
ترى ما هي الطرق والوسائل التي يستطيع الانسان من خلالها أو بوساطتها، التعرف على ما يخفيه المستقبل في بطونه العميقة والغامضة، كونها لا تزال نائمة في غياهب المجهول، إن العقل المتميز لا يعجز عن اكتشاف المستقبل ومعرفة الكثير مما سيحدث فيه، فهناك سبل وطرق معظمها يعتمد التجريب والتطابق والمقارنة، لكي يصل العقل بالنتيجة الى كثير من الوقائع التي ستحدث في في المستقبل.
في كتابه القيّم، الموسوم بـ (فقه المستقبل)، يقول الامام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حول طرق الكشف عن غوامض المستقبل: (يمكن أن نتنبأ بالمستقبل بواسطة دراسة شمولية وتحليلية للتاريخ الماضي، وكذلك دراسة شاملة للحاضر. فإن دراسة الماضي تكشف للإنسان آفاق المستقبل، وعادة أفكارنا عن المستقبل تأتي من الماضي لا من المستقبل نفسه).
إذن عنصر الكشف الاول عمّا ينطوي عليه المستقبل من أسرار ومفاجآت، هو الماضي، نعم إن دراسة الماضي وفهم احداثه بصورة جيدة وتحليلها ضمن القواعد المنطقية والموضوعية، سوف يتيح معرفة الكثير مما سيجري مستقبلا، إستنادا الى اسلوب المقارنة، والاستفادة من عنصر التوقع المستقبلي المرتكز على الماضي وقواعده، ولعلنا لا نخطئ عندما نقول، أن التجارب على المستوى الفردي أو الجمعي، تمثل خير دليل للإنسان الفرد وللدولة، معرفة ما سيجري في المستقبل، استنادا الى المقارنة واستخلاص التشابهات بين الزمنين، وهو اسلوب تحليلي علمي، نجح من خلاله العلماء والمختصون المعنيون في الكشف عن كثير من الحالات والظواهر التي لا تزال مستقرة في بطون المستقبل، فدراسة الماضي ومعرفة احداثه وتجاربه في المجالات كافة، تساعد على فهم المستقبل.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع بكتابه أعلاه: (إن ما حدث في الماضي هو مصدر إرشاد الإنسان إلى ما قد يحدث في المستقبل).
المستقبليون والافكار المستقبلية
لا شك أن طبيعة الافكار ومضامينها ومساراتها، تنعكس على خارطة الحاضر، وتتدخل بقوة في رسم خارطة المستقبل، وكذلك هناك دور لرغباتنا في صناعة حيثيات المستقبل وطبيعته، فالرغبة تنتج عن الحاجة التي تنقصنا أولا، وتحقيق الحاجة هو الذي يحفز الانسان على التفكير والابتكار، ومن ثم وضع الخطط اللازمة لإشباع تلك الحاجة وتحقيقها، ولذلك غالبا ما يضع الانسان الخطط المستقبلية وفقا لحاجاته التي يفتقر لها الحاضر، وعندما نخطط للمستقبل لسد تلك الحاجات، سوف نحتاج بصورة حتمية الى الماضي وتجاربه، حتى يكون التخطيط سليما، وتقل نسبة المفاجآت غير المحسوبة في التخطيط المستقبلي، لذلك هناك دور كبير لرغبة الانسان المستقبلي، في صناعة حيثيات ومزايا المستقبل المناسب أو المطلوب.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (تكون لرغباتنا أدوار في تشكيل أفكارنا المستقبلية، مثلاً نحن نشعر بالعطش فنطور فكرةً في الحصول على كأس من الماء بدل الاغتراف باليد أو غير ذلك، أو نحس بالقلق فنطوّر فكرةً للقيام بنزهة أو مطالعة كتاب أو القيام برسم أو غير ذلك). هذا المثال ينطبق كذلك على الحاجات المستقبلية ذات البعد الاستراتيجي.
والحقيقة أن الكشف عن خفايا المستقبل، يتطلب خطوات عديدة، لأن المستقبليين بطبيعتهم لا يقتنعون فقط في فهم الخطوط العريضة، او حتى التفصيلية للماضي، ان هذه العقول بصراحة لا تقتنع بفهم الماضي فقط، بل تذهب الى أبعد من ذلك، فتلجأ الى استخدام قدراتها الفنية والعلمية، وتذهب الى استخدام المعرفة التقنية الحالية لفهم ما يضمه المستقبل من حالات قد تكون خفية، وهذا التخفي أو الغموض لا يحد من رغبة العقل المستقبلي من سعيه لمعرفة الاحتمالات المستقبلية مقارنة بالحاضر والماضي معا، وصولا الى الاستنتاج الأمثل لما ينطوي عليه المستقبل من احتمالات.
لذلك نقرأ في كتاب (فقه المستقبل) للامام الشيرازي، قوله عن هذا الموضوع تحديدا: (المستقبليون لا يقتنعون بمجرد فهم أبعاد ما حدث في الماضي، بل إنهم يستخدمون معرفتهم الفنية والتقنية الآنية في فهم احتمالات المستقبل، والتخطيط له أيضاً. فالماضي قد مضى بخيره وشرّه، وقيمة الماضي تكمن بإمكان استخدامه لإنارة المستقبل). فعلا إن الماضي مضى وينحصر تأثيره في حياتنا، بمدى قدرتنا على الاستفادة منه، لاستخلاص ما يفيدنا، لتصحيح المستقبل، ومعرفة الاحتمالات والمفاجآت التي يخفيها، خلال عملية التخطيط المستقبلي.
الماضي والحاضر لخدمة المستقبل
ليس الماضي وحده يساعدنا على معرفة بواطن المستقبل وغوامضه، بل هناك دور واضح للحاضر في هذا المجال، بمعنى ان التجارب الراهنة تفرز النجاحات والاخطاء، فهناك خطط في الحاضر تنجح وأخرى تفشل في تحقيق الهدف، وما بين النجاح والفشل تظهر اسباب النجاح والعيوب كذلك، والعقول المستقبلية هي التي توظف اسباب العيوب من اجل ضمان المستقبل الأفضل، من خلال معرفة الاخطاء ومواطن الزلل ومحاولة تجنبها الى اقصى حد ممكن، كذلك يمكن أن يحدث نوع من التشابه بين احداث الماضي والحاضر، ومن خلال المقارنة بينهما نستطيع أن نخطط للمستقبل وفق خريطة أفضل وأنسب، وأهم شيء في هذا المجال، تحاشي الظواهر والاحداث والحالات غير المحسوبة.
لذا يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه، حول هذا الموضوع: (اننا إذا لاحظنا حدثاً في الحاضر يشبه حدثاً ما في الزمن الماضي، فإننا سنصل إلى أن نتائج هذا الحدث في المستقبل ستكون شبيهة بنتائج ذلك الحدث في الماضي على الأغلب. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها أيضاً في السياسة).
ومن الواضح أن العقول المستقبلية، هي التي تصر على التخطيط الجيد للمستقبل، أما كيف نضمن جودة التخطيط، فإن استثمار الحاضر مقارنة بالماضي، سوف يعكس بعض الاستنتاجات المضمونة، لذلك يرى بعض العلماء المعنيين أن الحاضر يمثل مرآة المستقبل، بمعنى هو النافذة الدقيقة التي نطل من خلالها على حيثيات المستقبل وما ينطوي عليه، لاسيما اذا عرفنا أن بعض الاوضاع التي نلحظها الآن، سوف تستمر نفسها الى سنوات وربما عقود قادمة، وقد لا يطرأ عليها تغيير كبير حتى في المستقبل، لذلك يمكن أن يكون الحاضر فعلا مرآة نرى من خلالها مستقبلنا.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي قائلا: (يتوقع البعض أن الحاضر مرآة المستقبل في الجملة؛ لأن الوضع الذي يلحظه الإنسان في هذا اليوم سيبقى نفسه إلى فترة من الزمن، أو يتغيّر قليلاً في المستقبل). وعلى العموم لا يمكن تجاهل الماضي اذا اردنا بناء المستقبل الجيد، كذلك الحال مع الحاضر، فهذان البعدان الزمنيان اللذان يسبقان المستقبل في كل شيء، يمكن أن يكونا عونا للعقول المستقبلية في استقراء احتمالات المستقبل، وتجنب الوضع الأصعب منها، وهكذا يمكن بالنتيجة أن نصل الى بناء مستقبل أفضل، استنادا الى ما جرى ويجري في الماضي والحاضر.
اضف تعليق