تتوهج مصابيح الهدى في القلوب، وتشعّ أنوارها في النفوس، ويتجدد أريج شهر رمضان، شهر الإيمان وتنظيف الأدران، الشهر الذي وهبه الدين للإنسان كي يستعيد براءته ونظافته، ويغتسل مما علق به من معاصٍ وذنوب، فهذه الدنيا بارعة في استدراج الناس إلى الصراع مكن أجل الزائل المقيت...
تتوهج مصابيح الهدى في القلوب، وتشعّ أنوارها في النفوس، ويتجدد أريج شهر رمضان، شهر الإيمان وتنظيف الأدران، الشهر الذي وهبه الدين للإنسان كي يستعيد براءته ونظافته، ويغتسل مما علق به من معاصٍ وذنوب، فهذه الدنيا بارعة في استدراج الناس إلى الصراع مكن أجل الزائل المقيت، يدفعهم الطمع والجشع وانعدام المسؤولية تجاه ما يعقب الدنيا.
وبعد مسيرة شاقة تقارب احد عشر شهرا من كل عام، يأتي شهر رمضان المبارك، كي يمنح الفرصة للإنسان حتى يراجع نفسه ويستقصي أعماله، ويعيد في ضوء ذلك حساباته، فهناك من يستثمر الفرصة الكريمة، ويستفيد من شهر القداسة والتقوى لتصحيح عيوبه، وتعديل مساراته بما يجعل من إنسانيته أكثر نصاعة، واقترابا من حقيقة الإنسان وخلْقه، ودوره في الحياة الدنيا عبورا إلى الدار الأخرى.
ومما يساعد الإنسان على الاستفادة من فرصة الصيام، وهو صوم يجب أن يكون مكتملا ومنسجما، ولا ينحصر بالإحجام عن تناول الطعام، وإنما يجب أن تكفّ جوارح الإنسان أيضا عن اقتراف الهفوات، بغض النظر عن طبيعتها أو تأثيراتها، مما يسهّل مهمة الإنسان لاستثمار شهر رمضان الكريم لتصحيح توجهاته في الفكر والعمل، أن الله تعالى يغلّ الشياطين في هذا الشهر الكريم، ويُبطل تأثيرهم على العقول والقلوب، وهو ما يجعل الجميع قادرين على تنظيف قلوبهم وأرواحهم من أدران السوء والانحراف من أي نوع كان.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الإسلام وشهر رمضان):
(هذا الشهر المبارك هو مناسبة عظيمة يعيش فيها الإنسان المسلم إسلامه حقيقة، وبكل معنى الكلمة لأن الشياطين فيه مغلولة، والأعمال مقبولة، والأجر والثواب مضاعف للعاملين).
الخير يتجلى بأبهى صوره
كم نحتاج من الذكاء والتدبّر والتمحيص، كي نستثمر هذا الشهر الكريم كفرصة لتطهير قلوبنا وتنزيه أنفسنا، وزرع رياحين التقوى في أعماقنا وأنفسنا، ومنحها لمن يعود إلينا من أولادنا وذوينا وأصدقائنا والمقربين منا، وكم نحن بحاجة إلى أن نكون النموذج المناسب والصحيح لأولادنا ولكل من ينظر إلينا كنموذج له في الأسرة أو محيط العمل وحتى في المحيط المجتمعي.
صحيح أن شهر رمضان مناسبة إيمانية، يتجلى فيها الخير بأبهى صوره، وهو إشعاع ونور يخترق النفوس ويتغلغل في القلوب، ولكن نحن نعيش في ملموس واقعي تحتدم فيه المصالح والتناقضات، وهذا الواقع قد يذهب بالإنسان في مسارات منحرفة، لا تراعي الحقوق ولا تلتزم بالحدود الدينية، ولا تعنيها الضوابط الأخلاقية، لهذا نحن بحاجة كبيرة إلى ترصين البنية الأخلاقية في هذا الشهر الذي يعد الفرصة الأفر والأقوى في بناء أخلاق الناس وإصلاحهم.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه:
(إن شهر رمضان المبارك شهر صيام وصلاة وطهارة ونزاهة وقداسة وتقوى. فعلى الإنسان أن ينظف نفسه حسب المستطاع، وذلك بتصحيح اعتقاداته وأعماله).
الغالب أن الإنسان لديه معتقدات يحتكم إليها في تحركاته ونشاطاته المختلفة، وعلى أساس هذه العقائد تتبلور الثوابت الأخلاقية له، وقد تتعرض الأخيرة إلى الضعف أو الزوال في لجة الصراع المادي بين الناس، ما يجعل الحياة أشبه بالغابة، تحكمها الصراعات ويفوز بها الأقوى، وهذا يقود الناس إلى ظلم بعضهم البعض، وعدم الشعور بعضهم ببعض، وتصاعد الاستئثار والكراهية والأحقاد، كلٌ يذهب إلى ما يبتغيه بقوة، بعيدا عن تحكيم الضمير أو الدين أو الأعراف أو الأخلاق الإنسانية!.
ولكن هل الإنسان خُلق للصراع، أم للمنافسة، وهل يصح الإيمان بأن الأقوى هو السيّد على الآخرين، بالطبع المعايير الرمضانية ترفض هذا المنطق، وتفضّل بل تحسم زعامة الأخلاق والقيم الرشيدة، في إدارة الصراع البشري، كونه لن يتوقف عن التوالد ما بقيت الحياة، لذلك نتائج الصراع البشري الفردي أو الجمعي لن تذهب سدى، فهنالك رقيب عينه لا تنام، وهنالك سجلات للأعمال والأفعال والأقوال، وبعد هذا وذاك، هناك يوم حساب يقف فيه الجميع أمام العادل العظيم في لحظة الحسم بين الجميع.
علينا أن نستعد ليوم الحساب
إنه يوم القيامة الذي ينبغي أن يستعد له الناس جميعا، ويضعوه في حسبانهم، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم إحقاق الحق، وإعلاء العدل، وسيادة الإنصاف، فمن يحسب حسابه لذلك اليوم القادم لا ريبة فيه، أمامه هذا الشهر المبارك، بكل المزايا التي يحوز عليها، والبركات التي تحيط أجواءه وتلوّن أيامه وساعاته ولحظاته، لذا عليه أن يستعد لهذا اليوم الحاسم، يوم القيامة، والاستعداد هذا لا يختلف عن استعداد الطالب لعبور سنوات الدراسة بنجاح سنة بعد أخرى، ولا يختلف عن نجاح الطبيب في الحصول على شهادة النجاح التي تؤهله كي يكون طبيبا للناس، ولا يختلف عن أي هدف كبير وعظيم يجب أن يصل إليه الإنسان بنجاح.
الالتزام بالواجبات، والابتعاد عن المحرمات جوهر مسيرة الإنسان وهو يحث الخطى نحو النهاية، والصراع بين قطبيّ الحلال والحرام لا يتوقّف، كون الدنيا تزخر فيه وتعج بلذائذ الحرام ومصاعب الحلال، عليه ينبغي أن يستثمر الإنسان شهر رمضان، يحاسب نفسه فيه، يعلّم نفسه أيضا على انتهاج الخير والحق والمحافظة على علاقاته مع الآخرين وحفاظه على حقوقهم وحدودهم التي يجب أن نحافظ عليها بشكل متبادَل.
يقول الإمام الشيرازي:
(يجب على الإنسان أن يجعل في حسابه ذلك اليوم عند كل عمل يعمله، فكما أن الطالب في المدرسة يتعب عشرين سنة أو أكثر لأجل أن يتخرج طبيباً أو مهندساً ويستريح بعد ذلك، فان على الإنسان العاقل أن يجتهد في الالتزام بالواجبات وترك المحرمات لأجل أن يسعد ما بعد الموت ويستريح بعدئذ فانه لا رجعة إلى الدنيا بعده، وقد دل العلم الحديث (بالتنويم المغناطيسي) و(التحضير) على بقاء الروح).
وهكذا يتضح أن مشوار الدنيا ليس هو الأخير، فهناك حياة ما بعد الموت، وهو أمر لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه، أو تجاهله بسبب مبادئ فكرية أو قناعة متأتية من فكرة ما، حياة ما بعد الموت أمر محسوم، ويوم الحساب قادم لا محالة، فمن يحسب حساب ذلك عليه أن ينتهز فرصة شهر رمضان الذي تُغَلّ في الشياطين ويتوقف إغواؤهم، وتُبطَل قوى الخداع فيهم، فيصبح الإنسان أكثر قدرة على المراجعة والتصحيح، وتهذيب النفس والقلب والكلام والتفكير والسلوك.
فمن يجعل فرصة شهر رمضان تمر من دون أن يستثمرها لصالحه، سيكون هو الخاسر الوحيد، مثله كمثل الإنسان الذي يدمّر نفسه بنفسه حين يقتل الفرص المتاحة له، في التوغل بالشر وعدم تهذيب النفس، وترك الأخلاق القويمة خلف ظهره، مغرما بمصالح آنية ستزول ما أن تغفو عينه مع النفس الأخير الذي سيلفظه عاجلا أم آجلا، ونحن في رحاب شهر رمضان، شهر الله، شهر العطاء والإيمان والكرم والمغفرة، شهر التقوى والأجواء الروحية الفريدة، علينا أن نتشبث بهذا الشهر بكل ما أوتينا من قوة وقناعة وتفكير واقعي سليم، فهذا الشهر الذي لا يأتي إلا بعد أن يمر عليه أحد عشر شهراً في السنة، هو الفرصة الأعظم لحصانة بنيتنا الأخلاقية من الانفراط أو الزلل.
اضف تعليق