إن النفس، او الذات، ليست مصدر مشكلة للانسان دائماً، بل العكس؛ بامكانها ان تكون مصدر خير اذا ما أفلح الانسان في تزكيتها من خلال برامج تربوية وعبادية وأخلاقية، وهذا يفسّر لنا التأكيدات الوافرة على أهمية الدعاء والمناجات والتهجّد، وأداء الصلوات المستحبة، و زيارة مراقد الأولياء الصالحين...
مقدمة:
تمثل النفس، إحدى القدرات الفاعلة لدى الانسان، الى جانب العقل والحواس، بها يتمكن من تحديد المواقف وصنع الافكار، كما من شأنها خلق دوافع ومبررات لاعمال شتّى، وهي تتميز عن سواها من القدرات كونها ضمن المنظومة الثنائية في الحياة، وليست باتجاه واحد، فربما تكون ايجابية تدفع الى الخير، وربما تكون سلبية تدفع الى الشر، وهي الحقيقة التي بينها لنا القرآن الكريم في صريح الآية الكريمة: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها}.
وحتى نكون من المفلحين في هذا الاختبار الحاسم، علينا ان نتحرك بحذر لنعرف الظروف والحالات التي تكون فيها النفس تقيّة، او تكون فاجرة، ونحصل عن اجابات محددة عن؛ كيف؟ ومتى؟
هذه المعرفة شغلت بال العلماء والباحثين فترة طويلة، وما تزال، بل واختلف العلماء في المقصود بالنفس الوارد في القرآن الكريم، كما اختلفوا في سبل المعرفة وآلياتها ومدياتها. وفي هذا المضمار يُسهم الامام والمرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في إثارة هذه القضية، لا ان تضاف الى السجال الفلسفي او العرفاني، انما لتكون باباً جديداً نحو آفاق فكرية ومعرفية تمكننا من صياغة ثقافة صحيحة لحياتنا، كما فعل الغربيون قبلنا وحسموا أمرهم مع هذه القضية.
وفيما يلي المقطع القصير من محاضرة لسماحته يشير فيها الى هذا الموضوع الواسع الابعاد:
الغرب يفكر في اختراق النفس الانسانية أيضاً
"تمكن الانسان من اختراق الفضاء والوصول القمر والمريخ، كما تمكن من الغوص في أعماق البحار، ولكن؛ هل تمكّن هذا الانسان من الوصول الى عمق نفسه؟
العلماء في العالم أجابوا بالنفي، ولكنهم في الوقت نفسه منشغلون بالتحقيق في هذا الأمر، وما يزالون.
أما نحن في العالم الاسلامي، فالغالبية منشغلة بتوفير لقمة العيش، أو من هم منشغلون باللهو واللعب، ثم نجهل هذا الامر البسيط والشائع الذي يفترض ان يدركه أي انسان".
منهج تربوي للنفس
ربما يكون المنهج –ببساطة- أشبه بالولد الذي يرزقه الله الانسان، فكلما كان أحسن تربيته، وشذب سلوكه، وأثراه بالتجارب والعبر، كلما استقامت شخصيته، ونضج فكره، وصحّت ثقافته، هكذا نفس الانسان التي ترافقه منذ ولادته، فهي المرآة الشفافة التي تعكس شخصيته على الواقع الخارجي، ولذا يشير القرآن الكريم الى وجود "نفس لوّامة"، وأخرى "أمارة بالسوء"، وقد خصص الاسلام برامج تفصيلية لتنمية وتربية وتهذيب هذه النفس لتكون أولاً؛ على مسافة بعيدة عن الرذائل والصفات السيئة، كونها ميّالة بالاساس الى كل ما هو سهل المنال وغير مُكلف، وهو طريق الرغبات والغرائز، ثم تأتي المرحلة اللاحقة في عمليات التهذيب والتشذيب التي تدعو الى التقوى والعفاف والكفاف وغيرها من الفضائل والصفات الاخلاقية الحميدة.
ولدى البعض تصور سلبي إزاء النفس الانسانية، حتى نراه احياناً يتعكّز على نصوص دينية لإظهار الوجه الظلامي والسيئ، بأن "الظلم من شيم النفوس"، او "النفس دنيئة"، أو "مريضة"، او غيرها من المفردات السلبية التي لا تضيف شيئاً على احباطات الانسان في معالجته لمشاكله مع نفسه، بل تخلق لديه حالة من الاحباط واليأس من الصلاح، والعجز أمام هذه النفس الذي هي بالحقيقة من صنع الله –تعالى-، والنتيجة أنه يقبل بالفشل في تنمية جوانب الخير والفضيلة في هذه النفس، بيد انه ينجح في الوقت نفسه في تنمية جوانب الشر والرذيلة، بما يقطع كل الآمال بعقد صداقة حقيقية بين الانسان ونفسه.
ولمن يقرأ مستهل سورة القيامة؛ الآية الثانية، يكتشف الحقيقة الباهرة بإعطاء الافضلية للجانب الايجابي للنفس عندما يوسمها باللوامة؛ {ولا أقسم بالنفس اللوامة}، وقد اختلف المفسرون في معنى "لا" النافية، حيث ذهب مفسرون الى أنها "زائدة، والتقدير؛ أُقسم"، فيما أكد أخرون غير ذلك؛ "لأن المقسم لأجله أوضح من أن يحتاج الى قسم، فالإجلال للمُقسَم لأجله"، وهو الله –تعالى- ، كما في قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم}، وايضاً قوله تعالى: {فلا أقسم بالشفق}، كل هذا يدل على الوجود الأصيل للنفس اللوامة في الانسان، وعظيم قدرها، ودورها في تقرير مصير الانسان في الدنيا والآخرة".
ومعرفة النفس تأتي خلال المسيرة الطويلة بين تزكية النفس وسموها، أو تسافلها، فالذي لا يجد حاجة لهذه العملية في حياته، ويستبدلها بالعقل والقدرة على التفكير والتحليل والاستفادة من الحواس لتحقيق ما يريد، فانه انما يضع نفسه أمام الاقدار والمتغيرات الصادمة التي لا تأتي له دائماً بما يوافق حتى عقله، كما نشهد من ابتلاء العالم بالازمات والنكبات في مختلف المجالات، فالحروب، وسباق التسلح، وانتشار الأوبئة، وتهديد البيئة، كلها من نتاج الاستخدام الخاطئ لعقل الانسان، وإبعاد النفس اللوامة، وهي نفسها؛ الضمير والوجدان، عن الواقع الخارجي.
الغرب والتجربة الناقصة لمعرفة النفس
كما يؤكد لنا سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، فان العلماء والمفكرون الغربيون بذلوا، وما يزالون، جهوداً مضنية لبحث مسألة النفس في الانسان، وكيف تخلق له الدوافع وتؤثر على تفكيره، فبعد علم الاجتماع، أبدع علماء الغرب علم النفس الاجتماعي لتحليل سلوك الانسان ومعرفة الخلفيات، ثم اصدار الاحكام على بعض التصرفات والظواهر الانسانية؛ السلبية منها والايجابية، بيد أن المسيرة العلمية للغرب في هذا المجال لم تتجاوز حواس الانسان وادراكاته المادية، حتى حدى بعالم مثل فرويد لأن يربط مشاكل الانسان النفسية بميوله الجنسية.
وفي كتابه؛ الصياغة الجديدة، أشارة سماحة الامام الشيرازي الى هذه الثغرة عندما يتحدث عن الفطرة السليمة و"أن لكل شيء في الحياة فطرة وخاصية، حسب ما قرره الله –تعالى- فكما نجد الفطرة الخاصة عند النبات تختلف عما عند الحيوان، كذلك نرى للانسان فطرة خاصة، وهذه الفطرة هي التي تملي عليه ما يلائمها وما ينافرها، وهذا ما لا يؤمن به جماعة من المفكرين في الغرب وفي الشرق، اذ يظنون ان الانسان صفحة بيضاء يمكنه استقبال أي نوع من المؤثرات التي تحرك مشاعره وعواطفه، وايضاً افكاره".
ولذا نجد المنظرين في الغرب كتبوا عن الدوافع والمشاعر ونسبوها الى "الذات" وليس النفس، ثم اسهبوا في البحث عن تفاصيل هذه الذات، وحدودها في اطار الفرد أو الجماعة، وتوصلوا الى أن الأصالة تعود الى الانسان، وانه مستقل عن ذاته وعن شخصيته التاريخية والاجتماعية والحضارية، كما دعت الى ذلك النظرية الليبرالية، ففي كتاب؛ الليبرالية وحدود العدالة، يتحدث الكاتب؛ مايكل ساندل عن رؤية ايمانويل كانت حول معرفة الذات للاستدلال بأولوية الحق على الخير، وايضاً أولوية الذات، باني "لا استطيع ان اعرف كل شيء يجب معرفته عن ذاتي بمجرد النظر فيها او استبطانها، لاني عندما استبطن ذاتي لا يمكن ان ارى إلا ما تنقله الحواس، لذلك لا استطيع ان اعرف إلا من حيث كوني موضوعاً للتجربة، حاملاً لهذه الرغبة او ذلك الميل"، ثم ينقل نصّاً من كانت بان "ما دام الانسان متعوداً على معرفة ذاته من خلال حسّه الباطني، لا يستطيع الادعاء بمعرفة ما هو بالضبط"، بيد ان الكاتب يأتي بدعوة من كانت بأن "ينبغي على المرء أن يفترض وجود شيء آخر وراء ذاته المكونة من مجرد مظاهر، تشكل هي اساس ذاته، أيّ؛ أناه من حيث هو مكون من ذاته".
إن النفس، او الذات، حسب تعبير الفلاسفة والمفكرين، ليست مصدر مشكلة للانسان دائماً، بل العكس؛ بامكانها ان تكون مصدر خير اذا ما أفلح الانسان في تزكيتها من خلال برامج تربوية وعبادية وأخلاقية، وهذا يفسّر لنا التأكيدات الوافرة على أهمية الدعاء والمناجات والتهجّد، وأداء الصلوات المستحبة، و زيارة مراقد الأولياء الصالحين، كل ذلك وغيره كثير من شأنه أن يقود صاحبه الى التفكير الصحيح الذي ينتج المنفعة لنفسه هو، ولسائر افراد المجتمع، كما تصونه من الفعل الخطأ فيما يتعلق بعلاقته مع الناس، وارتكاب المعاصي فيما يتعلق بعلاقته بربه –تعالى-، وحتى لا تتحول هذه النفس الى مصدر لانتاج الهوى، والدوافع لتلبية الرغبات والشهوات الآنية فيكون في خسران مبين.
اضف تعليق