من الذي لا يعرف جبل الصبر؟، وصاحبة أنبل شخصية، وأقوى صوت إعلامي في زمانها، إنها زينب الحوراء، أو زينب الكبرى، عايشت واقعة الطف وأحداثها لحظة بلحظة وحادثة بحادثة، وتصدت لمسؤولية قيادة الركب الحسيني الشريف بعد استشهاد أخيها الحسين بن علي (عليهما السلام)...
من الذي لا يعرف جبل الصبر؟، وصاحبة أنبل شخصية، وأقوى صوت إعلامي في زمانها، إنها زينب الحوراء، أو زينب الكبرى، عايشت واقعة الطف وأحداثها لحظة بلحظة وحادثة بحادثة، وتصدت لمسؤولية قيادة الركب الحسيني الشريف بعد استشهاد أخيها الحسين بن علي (عليهما السلام)، وبسبب قوة حجّتها وصلابة شخصيتها وإيمانها العظيم بما خرج إليه أخوها أبو عبد الله سيد الشهداء، استطاعت أن تصل بصوتهِ عليه السلام إلى أبعد نقطة في العالم.
فأي علمٍ ذلك الذي ميّزها عن غيرها، وأي قوة روحية تلك التي منحتها القدرة على إلحاق الهزيمة المعنوية والمنطقية ليزيد في عقر داره، وهي صاحبة الخطبة الشهيرة التي قالت فيها ليزيد: (فكدْ كيدكَ واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد).
أية بلاغة هذه التي جعلت أعلى رجل في السلطة الأموية يشعر بالعار والانحطاط والصغِر، وأية شجاعة تتميز بها زينب وهي تدافع عن إحقاق الحق، وتلحق أشنع الهزائم بالباطل، ولقد كانت العقيلة مسؤولة ععن الركب الحسيني (النساء والأطفال وغيرهم) من لحظة انطلاق أخيها الحسين (عليه السلام) من الحجاز، حتى عودتها إلى الكوفة والحجاز من الشام، ولا يزال التاريخ والحاضر يتحدثان عن هذا الصوت العظيم بكل الإجلال والدهشة، فمثل هذه المواقف والمسؤوليات الجليلة لا يتمكن منها إلا من ينتمي إلى الدوحة المحمدية وينهل منها علومه وقوة شخصيته ونبله، وهذا ما كان لزينب الحوراء عليها السلام، وهو الذي أعدّها لمهمة الطف الاستثنائية.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السيدة زينب عليها السلام عالِمة غير معلَّمة): إن (زينب عليها السلام هي التي أوصلت صوت الإمام الحسين عليه السلام إلى العالم أجمع).
إن جميع الدلائل المستقاة من شخصية السيدة زينب الحوراء تؤكد بأن الله تعالى وهبها الكثير من الملَكات والصفات والمواهب التي جعلت منها (جبلا من الصبر)، وأيقونة متفردة للبلاغة وعمق المعاني وجزالة اللغة، بحيث كان تأثيرها في مجلس يزيد اثناء إلقائها لخطبتها الشهيرة، كالزلزال الذي هزّ أركان الباطل، وبنفس مقدر الذل والصِغر والاحتقار الذي أنزلته بـ يزيد وزبانيته، فهي بكلامها وخطباها الدقيق الواثق أقنعت الجميع وجعلتهم يعرفون مدى الخطأ الفادح الذي ارتكبوه بتأييدهم للطاغية الصغير الذي ارتكب ما لم يرتكبه غيره في إلحاق الأذى برسول الأمة وبذريته المتمثلة بسبطه الإمام الحسين وذويه عليهم أفضل الصلاة والسلام.
يقول الإمام الشيرازي: لقد (كانت السيدة زينب عليها السلام تملك مرتبة عالية من الذكاء الفطري، بالإضافة إلى مواهبها الإلهية وعلمها الرباني، وقد حفظت خطبة أمها فاطمة الزهراء عليها السلام في المسجد النبوي الشريف وعمرها حينذاك ما يقارب الخمس سنوات).
حقيقة الارتباط بالله تعالى
إن الشخصية الفريدة التي تحلَّت بها السيدة زينب تعد من الشخصيات التي لا تتكرر في التاريخ، ومرد ذلك ليس المزايا الاعتيادية ولا الصفات الدارجة التي تُعرف في النساء، لذا فإن الدافع الأهم لقوة هذه الشخصية وصلابتها، وقدرتها على تحمّل الويلات والمصائب والخطوب الجسام، يعود إلى ارتباطها بالله تعالى، فما تعرضت له زينب عليها السلام من مسؤولية لا يمكن وصفها بكلمات أو صور، وما تصدّت له عليها السلام من مواقف كبرى، وما تحملته من مصاعب جمة على الصعيدين المعنوي والمادي، لا يمكن أن يعد من ضمن قدرات الإنسان العادية.
إنها عليها السلام استمدت قدراتها من الروح وليس من المادة، وشتان بين الاثنين الروح والمادة، وما أوسع الفوارق بينهما، فمن يستمد قوته وصلابته وقوة تحمله وصفاته من العمق الروحي غير ذلك الذي يستمد صفاته وقدراته من قدرات الجسم المادية، ولهذا قدمت السيدة زينب الحوراء دروسا لا تتكرر في الصبر والتحمل والشجاعة والأناة ورجاحة العقل وصلابة الموقف، والقدرة على فضح المكانة الزائفة للطاغوت الصغير يزيد.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الجانب:
(إن الشيء مهما كان كبيرا دنيويا، لا قيمة له.. فإنه يزول، والشيء مهما كان صغيرا إلا أنه إذا ارتبط بالله سبحانه وتعالى، فهو أكبر من كل كبير).
لكن في عالمنا الحالي تنال المادة اهتماما أكبر بكثير من الاهتمام بالروح، ومع أن عالمنا الآن تطغي عليه المادة بكل تفاصيله، إلا أن الروح تبقى صاحبة اليد العليا في تحقيق المعجزات، لهذا وُصفت الحوراء زينب بأنها (جبل الصبر)، واحتلت بجدارة مكانة الصوت (الإعلامي الحسيني) الذي قامت به في الثورة الحسينية على أفضل ما يمكن، جاعلة من الفكر الحسيني وما تعرض له ذرّية الرسول الأكرم (ص) متصدرا لصفحات التاريخ الإسلامي الصادق، وكل هذا جاء وفق ميزة الارتباط بالله التي منحت السيدة الحوراء القوة الروحية والمعنوية غير المحدودة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي في كتابه نفسه:
(إن العالم المادي، وإن كان ينال حاليا القسط الأكبر من الاهتمام، إلا أن المادة وحدها لا تكفي لملء فراغ الإنسان الذي خُلق من روح ومادة، ولذا نجد أنه كلما أوغلت الدنيا في المادية يبقى الإقبال على الروحانية والمعنوية أكبر).
اهتمام السيدة زينب بالشعائر
لا تُخفى على أحد تلك المنزلة الكبيرة التي أخذتها السيدة زينب عليها السلام عن أبيها الإمام علي وعن أمها فاطمة الزهراء (عليهما السلام)، فضلا عن تمسكها بالطاعات والعبادات التي حباها لها الله تعالى، فهذه الصفات لا تُمنح لأي كان، ولا تُعطى إلا لمن يستحقها، لذلك تحلَّت شخصية الحوراء زينب بأجلّ وأفضل الخصال والسمات والصفات التي جعلت منها من المقرّبين إلى الله، وهنا تحديدا تكمن ميزتها وتفردها، بحيث صارت رمزا للحق والدفاع عنه، وباتت نموذجا عظيما للمرأة، فصرن النساء المسلمات يفخرنَ بها ويجدن فيها الأسوة التي ينبغي أن يسرنَ في طريقها.
وكم نحتاج في مجتمعنا العراقي والإسلامي لهذا النموذج من النساء، فإذا أردنا أن نحصي الملَكات والصفات من ثقافة ووعي وفكر وسلوك، سوف نجد كل ما يلزم المرأة العصرية كي تتصدى لدورها الكبير في المجتمع، فهي المربية الصبور، وهي المعلمة، وهي من توجّه الصغار في بدايات حياتهم نحو الصواب، وهي التي تسند الرجل في مسيرة الحياة الشاقة، وهي صاحبة المواقف المبدئية بلا خوف أو تردد، فهي بالنتيجة الفاعلة الحيوية في دورها التربوي المجتمعي.
هذا هو دور السيدة زينب عليها السلام كما يراه الإمام الشيرازي:
إن السيدة زينب مع (رفعةُ أبويها بتلك المنزلة العالية، ومع شدة مواظبتها على الطاعات والعبادات وقابليتها التي منحها الله عزوجل، خَلقت منها أنبل شخصية، وأرفع إنسانة مقرّبة عند الله تبارك وتعالى).
وفي غمرة المصاب الحسيني الجلل، ومع كل ما تكالب على الحوراء من مصاعب وأهوال، لم تنس السيدة زينب أن تقيم الشعائر وتحييها، مواساة لأخيها سيد الشهداء، فقد قامت بالدور الذي أوكل لها على أفضل الوجوه، على الرغم من تعدد المهام وتنوّع الأدوار، لكنها بقيت الشخصية الأنبل، والصوت الأقوى المقارع للباطل، فحقَّ لها أن تكون النموذج الأعظم للمرأة المسلمة وهي تواجه الباطل بكل ما أوتيت من قوة وإصرار وإيمان جعل منها خالدة على مدى الأزمان.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد اهتمت السيدة زينب عليها السلام بالشعائر الحسينية اكبر اهتمام، فعلاً وقولاً وتقريراً: فبكت، وأبكت، ولطمت وجهها، وخطبت خطباً، وأنشأت أشعاراً، وعقدت العزاء والبكاء على الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام).
اضف تعليق