الإصلاح حجر الزاوية في تطوير الأفراد والمجتمعات نحو الارتقاء، وهذا أمر مفروغ منه، تبقى القضية الأهم هي الآلية أو الطريقة أو المنهج الذي يتم به إكمال عملية أو خطوات الاصلاح، بمعنى ما هي الخطوات العملية لتحقيق الإصلاح العميق وليس السطحي، فثمة فوارق كبيرة بين الإصلاح السطحي والإصلاح العميق، لأن النوع الأول ديدنه الإنشغال بالتوافه والصغائر، ويهمل الآفاق والرؤى والأهداف الاستراتيجية، وينشغل بالقضايا والاهداف السطحية الآنية، وهي تتمحور في الفوائد والمكاسب (الفردية، الحزبية، الجهوية) العاجلة، لذلك سوف يأتي هذا النوع من الإصلاح السطحي على حساب الإصلاح العميق.
لذلك يركِّز الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، (رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (ممارسة التغيير)، على جانب أساسي يتعلق بالإصلاح، وهو جانب الاشتغال بالأهم والأكبر والأبعد مدى وأكثر عمقا وفائدة للفرد والأمة في الوقت نفسه.
من هنا يؤكد الامام قائلا في هذا المجال: (لابد لمن يتصدى لعملية التغيير أن لا ينشغل بالأمور الجانبية التافهة، والإصلاحات السطحية البسيطة، لأن الاشتغال بالتوافه يمنع من الوصول إلى الأهداف المخطَّط لها).
إذاً من الواضح أن الصغائر والتوافه لا تلتقي مع الاهداف الكبيرة، بل هي قد تقف عائقا أمام تحقيقها، فالصغائر بمثابة حجر عثرة، يمنع المشتغلين في الاصلاح عن تحقيق البعد الاستراتيجي له، نعم هناك بعض الخسائر الآنية، لمن يبتعد عن تحصيل المكاسب العاجلة، ولكن في المقابل هناك فوائد كبرى على المستوى الاستراتيجي، فعندما يسهم الاصلاح في بناء دولة قوية متطورة ومستقرة، سوف تشمل الفائدة جميع الناس، وسوف يكون المكسب هنا جماعي، حتى لو تطلَّب ذلك وقتا وصبرا وتضحية بالمنافع السريعة ذات الطابع الضيّق والعاجل، لذلك القادة (الاستراتيجيون) الناجحون، لا تشغلهم الصغائر، بل ما يشغلهم بصورة دائمة هو الاصلاح الحقيقي وليس السطحي.
يقول الامام الشيرازي في كتابه (ممارسة التغيير) مستشهدا بالسيرة النبوية العظيمة في هذا المجال: (في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله، يبدو الاهتمام بالإصلاح الأساسي أكثر من الاهتمام بالإصلاح الجانبي، فقد كان في جيشه حتى المنافقين، فلم ينشغل بإصلاحهم عن الإصلاح العام).
سر فشل بعض الحركات
إذاً نحن إزاء مشكلة لابد من التصدي لها بواقعية وعلمية، ونعني بها مشكلة القادة السياسيين أو الذين يتصدون لعملية التغيير، في طريقة تعاملهم مع الاصلاح، لاسيما أن مهمة القادة تتمثل بالدرجة الاولى في قدرتهم على تطوير دولهم ومجتمعاتهم، وهذا في الحقيقة لا يمكن تحقيقه من دون الشروع بعملية اصح واسعة وحثيثة، ولكن ما هو نوع الاصلاح الذي ينبغي على القادة اعتماده للتغيير، للأسف هناك بعض القادة ينشغل بالصغائر و(الجانبيات) كما يسمها الامام الشيرازي، ويتركون الأهم وهو الاصلاح عن طريق الاشتغال بالقضايا الكبيرة وليس الصغيرة، خاصة اذا عرفنا أن الانسان (القائد) لا يمكنه الجمع بين النوعين من الاصلاح، بمعنى لا يستطيع الانسان أن يشتغل بالصغائر والكبائر في وقت واحد.
لذا يؤكد الامام الشيرازي موضّحا هذا الجانب بقوله: (ليس للإنسان قدرتان - مهما كان ذلك الإنسان عظيماً- قدرة الإصلاح الجانبي، وقدرة الإصلاح الكبير). وهكذا سوف يعجز الانسان مهما كانت صفاته ومؤهلاته عن الجمع بين الاصلاح الجانبي والكبير، وسوف يكون حالهُ هنا كمن يريد أن يمسك رمّانتين بيد واحدة!، لكن المثل المعروف (ومع ان الامثال تُضرَب ولا تُقاس) يقول (لا يمكن مسك رمانتين بيدٍ واحدة)، فلابد هنا التضحية بواحدة منهما، لذلك حريّ بالانسان أن يتمسك بالأفضل دائما، ولا شك أن الاصلاح الكبير هو الذي يخدم الانسان أكثر من الاصلاح السطحي.
هذا الاستنتاج يقودنا بالنتيجة، الى حتمية انشغال القادة في اي مجال كان، وخاصة القادة السياسيين منهم، بالاصلاح البعيد المدى او الاستراتيجي، أما في حالة حدوث العكس، فإن النتائج والأضرار والعواقب سوف تكون وخيمة على الدولة والمجتمع، فما فائدة قائد تجعله الناس مسؤولا عنها، وتأتمر بأوامره وتطيعه، وتتنازل وفق (العقد الاجتماعي) له عن بعض المزايا الشخصية، كل هذا من اجل مكاسب للفرد والمجتمع، وهذه المكاسب لا يمكن تحقيقها إلا عندما يشتغل القائد السياسي في الاصلاح الكبير.
ولعل السر في فشل بعض الحركات الاسلامية، يعود الى انهماكها بالقضايا الجانبية وليست الجوهرية، واهمالها للإصلاح الذي يتعلق بالمصالح الكبرى التي تتعلق ببناء الدولة ومؤسساتها بما يجعل منها دولة قوية، وليس الاصلاح الذي ينشغل بفوائد آنية فردية، إن هذا الاسلوب من العمل الاصلاحي هو الذي افشل بعض الحركات.
كما اكد على لك الامام الشيرازي عندما قال: (السرّ في فشل بعض الحركات الإسلامية أنها ظلت تهتم بالصغائر وأهملت الكبائر).
إذا صلحَتْ الكبائر؟؟
المتبجحون هم أولئك الذين ينشغلون بالصغائر اكثر من غيرهم، وهم غالبا ما يظنون بأنهم متميزون وفاعلون، وناجحون في الاعلان عن انفسهم وتسويقها للآخرين، ولكنهم لا يعلمون أن الناس تعرفهم تماما، وربما لا يعرف المتبجحون أنهم مكروهون!، ولا شك أن الانسان المتبجح مريض نفسيا، وعندما يكثر هؤلاء في المجتمع، فلا بد أن يكون المجتمع متأخرا اذا طغى عليه المتبجحون، لذلك نجد أن معظم هؤلاء مصابون بالجهل، على العكس من الانسان العارف والمتعلّم والواثق من نفسه، فالعارف لا يحتاج للتبجح المنشغل بالصغائر دوما، لكن المتبجحين غالبا ما يقومون بأعمال منحرفة، تسيء للمجتمع.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (ممارسة التغيير) على: (ان الإنسان الجاهل يقوم بالعمل الحقير أو المنحرف متبجحاً، بينما لو أنه كان عالماً لشعر بالخجل من ذلك العمل).
علما ان انعكاس ظاهرة الانشغال بالتوافه ستكون واضحة على المجتمع، كونها من سماته، فلا يمكن لمجتمع متقدم ان ينشغل بما لا يفيده ويساعده على التقدم، ينطبق هذا على الافراد بطبيعة الحال، فالانسان في المجتمع المتطور غيره في المجتمع المتأخر، لأنهما نتاج وسطين مختلفين او متناقضين، لذلك لا يمكن أن يتشابه انسان المجتمع المتقدم مع انسان المجتمع المتخلف، بسبب اختلاف الافكار، وهيمنة الجهل على الافراد والجماعات في المجتمع المتأخر، لذلك يكثر الانشغال بالتوافه في مثل هذه المجتمعات، وبدوره يكثر الانحراف، ويجد بيئة صالحة في التخلف.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إن الانشغال بالتوافه يعد من سمات المجتمع الجاهل المتخلف إذ يتسبب هذا، اشتغال الناس بالتوافه المخجلة أحياناً بدلا من الاشتغال بعظائم الأمور).
علما أن القادة الاذكياء، والمسؤولون عن تطوير المجتمع، يعرفون ويؤمنون، بالاصلاح الاستراتيجي وليس السطحي، ليس هذا فحسب، بل هم يؤمنون بأن الاصلاح الكبير، يعود بالفائدة على الجميع، فعندما يتم إصلاح الكبائر، فإن الصغائر سوف يتم تصحيحها بصورة آلية، أي أن الاصلاح الكبير يقود (بصورة آلية) الى تصحيح الصغائر، وهذا هو الربح الكبير للمجتمع، فقد تحقق النوعان من الاصلاح، ولكن ليس في وقت واحد، لاستحالة هذا، ولكن عندما يشتغل قادة التغيير بالاصلاح الأهم، او الكبير، سوف يتم تصحيح واصلاح الصغائر كمحصلة أو نتيجة للنوع الاول من الاصلاح.
لهذا يؤكد الامام الشيرازي هذا المعنى عندما يقول: (في الواقع إذا صلحت الكبائر، صلحت الصغائر تلقائياً وليس العكس).
اضف تعليق