لا يجوز انتظار الوقت الأفضل إلاّ في موارد خاصة، أما من يقول إنه ينتظر ذلك، فليس إلاّ تهرباً من المسؤولية في بعض الأحيان، ومثله من يقول: إنه يتحرى العمل الأفضل، وليتذكر صاحب القدرة المثل المشهور: من لم يحطم المتاعب حطمته...
خُلق الإنسان من أجل أهدافٍ عدة، ولم يُخلَق هباءً، وقد حوَتْ تركيبتهُ التكوينية كل ما يجعل منه قابلا للحركة، فثمة حزمة من الغرائز تديم حفاظه على حياته كالخوف من الخطر، وحب المصلحة والذات، والكفاح من أجل البقاء، والتطلّع إلى الارتقاء درجات ودرجات دونما اكتفاء، فطموح الإنسان لا يتوقف عند حد، أو سنّ معينة، ديمومة الإنجاز مغروسة في قلب الإنسان وعقله وتجري في شرايين دمه، حتى لو كان إنسانا عادياً، أما ذو القدرة من البشر فهو المعني بالانجاز والتطور أكثر من غيره، وإن كان الجميع مطالَباً بالتطوّر والعلوّ.
ولكن ما الذي يجعل من الإنسان أقرب إلى التفوق على أقرانه أو غيرهم، ثمة اشتراطات ومستلزمات تتصدر صناعة النجاح والتفوق، تتصدرها المبادرة والتسارع والاستباق، فهذه السمات إذا ما توافرت عند صاحب القدرة، سوف يكون في المقدمة دائما، وقبل هذه السمات يجب أن نستثمر الفكر المتكامل، ومن ثم روح الإقدام، وبعدها حسم المبادرة واتخاذ القرار، فهذه الأركان في غاية الأهمية لمن يمتلك القدرة على تحديث حياته وتطويرها.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (شروط تقدم الجماعات):
إن (الفكر المتكامل والجرأة والمبادرة واتخاذ القرار من الأمور الضرورية للإنسان ذي القدرة).
ثمة شروط ينبغي لصاحب القدرة أن يعرفها جيدا ويلتزم بها عند التطبيق، فحين ينوي الشروع بمشروع ما، أول ركن مهم له هو التفكّر العميق الذي يحيط بالمشروع بدقة ويدرسه دراسة مستفيضة لا تترك مجالا لحدوث المفاجآت غير المحسوبة، فالعمل دونما تفكير مسبق ضرب من العبث ومضيعة للوقت وهدر للطاقات، كذلك عليه أن يبتعد عن التردد بعد التفكير واتخاذ القرار، بمعني إذا فكّرتَ جيدا بمشروعك، ودرسته من كل الجوانب بدقة، واتخذت قرارك بالبدء عليك أن لا تتردد، وتبادر وتسارع وتستبق الجميع إلى هدفك.
الإمام الشيرازي يركّز على هذه الخاصية فيقول:
(ينبغي على القدير أن لا يُقْدم من دون تفكّر في جوانب الأمر الذي ينوي القيام به، وإلاّ فإن ما سيفسده أكثر مما يصلحه، ثم إذا فكر وتردد لا ينفعه تفكّره، فالسبّاقون هم الفائزون، لذا يجب السبق بالمبادرة. لهذا قال تعالى: (سارعوا) سورة آل عمران. وقال سبحانه و: (استبقوا) سورة البقرة).
الروتين يقتل روح المبادرة
وثمة ملاحظة دقيقة أخرى على صاحب القدرة أن يتنبّه لها بقوة، ونقصد بها الروتين، أو رتابة أساليب العمل وطرائقه، فالجديد المتميز والمبتكَر من الخطوات في إنجاز العمل أيَا كان حجمه أو نوعه، من أهم شروط التفوق والنجاح، هنا لابد لصاحب القدرة أن يجرب إجراءات عملية جديدة دائما، تختلف عمّا سبقها في المشاريع الماضية، وليس صحيحا أن يركن الإنسان إلى الأساليب نفسها في تحقيق التفوق والنجاح.
فإذا كان يتحلى الإنسان بحسن التفكير والدقة ومن ثم المبادرة، عليه أن يطرد الرتابة في أعماله، ويجب أن يهشم سلسلة العمل الروتيني، ويلجأ إلى التحديث في كل شيء، فالقضاء على سلاسل الروتين في العمل تقضي على الملل والتراجع وتضاعف من فرص الإنتاج الأفضل بالاحتكام المستدام إلى الذكاء والعلمية، على أن تكون الرزانة والهدوء والدقة صفات يتحلى بها صاحب القدرة، وعليه أن يصنع أكثر من خيار، ثم يختار الأفضل والأهم بمبادرة لا تقبل التأخير أو التردد.
الإمام الشيرازي يستشهد بحكمة أحد الحكماء في كتابه شروط تقدم الجماعات:
(يقول أحد الحكماء: الجريء من فكر في الأشياء بهدوء، ودرسها بدقة، ووازن بين الأمور واختار الأصلح، ثم بادر وأسرع، لا يلوي على شيء).
لقد اعتاد بعض الناس ومنهم بعض العراقيين على الدعة والبحث عن الراحة، وعدم إعمال التفكير وإشغال العقل، وانتظار النتائج جاهزة لصالحهم من دون أن يبذلوا أي جهد كان، وهذا الأسلوب في العيش خاطئ بل يشكل خطرا على الحياة برمتها، لذلك ركّز الإمام الشيرازي على وجوب التخلص من الأسلوب الروتيني في التفكير أو التطبيق العملي، فإذا جرب الإنسان هذا المشروع ولم ينجح به لأي سبب كان، عليه أن يفكر بآخر ويبادر لتحريكه بأكثر من طريقة، كما ينبغي أن تكون أساليب التفكير والتشغيل غير مكرّرة ولا روتينية، فالتجديد في التفكير والتنقّل من مشروع إلى آخر في حال الفشل، يضمن النجاح الفعلي، لذلك نجد أن الإنسان المبادر الحركي المتجدد هو الأكثر نجاحا في الحياة من غيره.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن الروتين يلحق أشدّ الضرر بالقدرة، وإذا رأى ذو القدرة أن أمره يسير بطريقة روتينية، عليه أن يخترع أمراً جديداً، ويمكنه المبادرة في نطاقه، فإذا فتح مدرسة وتجمَّد تقدمها وتطورها، عليه أن يفكر في فتح مكتبة ثم مستشفى ثم مطبعة وهكذا....).
على أهبة الاستعداد دائما
مما سبق ذكره يتضح أن العراقيين يحتاجون إلى هذا النموذج الذي يطره الإمام الشيرازي في كتابه هذا، خاصة أننا نلاحظ ظاهرة خمول الإنسان طاغية على الشباب العراقي أو الفئات العمرية الأخرى، كذلك نلاحظ هيمنة الخمول في التفكير طاغية عليهم، كما أنهم غالبا من ينتظرون النتائج من غيرهم دون أن يبادروا بأنفسهم لتحسين حياتهم وتطويرها.
إن الاستعداد للعمل ينبغي أن يكون سمة وصفة دائمة في الإنسان، لأنها تضمن له حياة متطورة ومرفّهة وكريمة أيضا، هو يصنعها بيديه ولا يمنّ أحد بها عليه، فمثلا غالبا ما ينتظر العراقيون من الحكومة أن تطور حياتهم وتجد لهم الوظائف، دون يسألوا أنفسهم ما هو دورهم الشخصي والجمعي في تطوير وتحسين حياتهم؟، لذا على الإنسان أن يكون على أهبة الاستعداد للعمل أيا كان نوعه، حتى أننا نلاحظ في حياتنا أن أكثر الناس غنى ورغدا في العيش هم أولئك الذين يعملون بشكل دائم وبأساليب متجددة ولا يبحثون عن الراحة أو الرزق المضمون من الدولة.
فكلما كان عمل الإنسان مدروسا بعد قرارات محسوبة بدقة، سوف يكثر إنجازه، ويكون أكثر حيوية ونجاحا ويكسب احترام الناس وإعجابهم وتقديريهم.
كما في قول الإمام الشيرازي:
(يجب أن يكون صاحب القدرة أو الإنسان عموما، دائماً على أهبة الاستعداد للعمل، ويفكر في رد الفعل الحسن والسريع لكل ظرف، فالحياة عبارة عن مجموعة قرارات وإنجازات، وكل من كانت قراراته وإنجازاته أكثر، كان أكثر حيوية وأجدر بالاحترام والتقدير).
ومن الأعذار غير المقبولة التي يحتمي بها بعض الخاملين والفاشلين، أنه يتحجج بانتظار المشروع الأفضل، ويبقى في حالة خمول وسكون مترقبا مشروعا قد لا يأتي ابدا، فالصحيح هو البحث عن مشروع آخر وآخر بدراية وتمحيص وخبرة، وليس الصحيح انتظار المشروع بحسب مواصفات الإنسان المتباطئ وغير المبادر، ذلك أن المشاريع لا تبحث عن الأشخاص، وإنما العكس هو الصحيح، كما أن الرزق لا يطرق باب الإنسان إذا لم يسعَ إليه بنفسه.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال:
(لا يجوز انتظار الوقت الأفضل إلاّ في موارد خاصة، أما من يقول إنه ينتظر ذلك، فليس إلاّ تهرباً من المسؤولية في بعض الأحيان، ومثله من يقول: إنه يتحرى العمل الأفضل، وليتذكر صاحب القدرة المثل المشهور: من لم يحطم المتاعب حطمته).
اضف تعليق