في باكورة ظهوره على الساحة الاسلامية في العراق والعالم الاسلامي، تميز سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- باطروحته "الحركية- التنظيمية" لتضفي على شخصيته الدينية – المرجعية، طابعاً خاصاً ميزه عن كثير من مراجع الدين في زمانه، بل وحتى الفترة الراهنة، فقد قرن مسؤوليته المرجعية بعد رحيل الوالد المكرّم، بمسؤولية حضارية تتضمن التغيير الشامل على صعيد المجتمع والدولة مستنداً في ذلك على تجربة رائدة جسدها النبي الأكرم ومن بعده امير المؤمنين، عليهما السلام-.
هذا التغيير – كما تنبأ له الامام الراحل منذ الايام الاولى- لا يتم من خلال دروس الحوزة العلمية وتخريج الفقهاء والخطباء وحتى تأدية وظيفة التبليغ الديني والثقافي وحسب، إنما هناك مكملٌ حضاري هام واساس لنجاح المشروع التغييري، يتمثل في العمل الحركي المنظّم. لذا كانت البداية في المشاريع الثقافية والفكرية التي تحدثنا عنها بإيجاز في المقال السابق، وكان من جملتها ايضاً، المشروع الحركي – التنظيمي الذي نظّر له في مؤلفات عدّة في مقدمتها "فقه السياسة" وكتابه القيّم "السبيل الى انهاض المسلمين". ثم وضع الخطوط العريضة والدقيقة لعمل "الحزب" بمواصفاته المطلوبة، ثم اهدافه النهائية.
النظرية والتطبيق
عندما نتحدث عن "حركة اسلامية"، فنحن أمام نظرية متكاملة ذات أصالة فكرية ودينية يخرجها سماحة الامام الشيرازي من التصور السطحي المقيّد بمنطقة جغرافية معينة، او بشعب دون آخر. صحيح، ان تنظيره للحركة الاسلامية، وجدت تطبيقات عملية في العراق، بيد ان الرؤية شملت جميع انحاء العالم الاسلامي. وخلال محاضراته الثقافية في الكويت في سني السبعينات، كان الامام الراحل يسلّط الضوء على تجارب فاشلة لحركات اسلامية في غير بلد اسلامي، في طريق تحقيق اهدافها في اقامة النظام الاسلامي. لذا حرص الامام الراحل على تأصيل فكرة الحزب اساساً، لتكون الارضية الصالحة لانطلاق الحركة الاسلامية الناجحة، وحدد رأي الشريعة فيه، قبل أي شيء، وذلك في كتابه القيّم "الفقه السياسة"، حيث حدد عدة محاذير من سقوط الحزب عن الشرعية الدينية، ثم التسبب في تصدّع هيكلية الحركة الاسلامية والاساءة الى اهدافها ومستقبلها. كما حصل في عديد التجارب في بلادنا الاسلامية:
1- اذا كان سبباً في لقبض أزمة السياسة في البلاد من دون الانضواء تحت لواء الفقيه العادل الجامع للشرائط، إذ الاسلام قرر الولاية لله – تعالى- ثم للرسول، ثم للإمام علي، عليهما السلام، ثم الفقيه الذي هو نائبهم.
2- اذا تحول الى عامل لنشوء الديكتاتورية ومصادرة رأي الأكثرية، ولو كان فقيهاً عادلاً، إذ يؤكد سماحته إنه لايجوز لمن يقيم نظام الحكم الاسلامي أن يحكم برأيه الشخصي، ان ينتهج الاستبداد، فاضافة الى ضرورة ان يكون مرضياً لله – تعالى- يجب ايضاً ان يكون منتخباً من قبل أكثرية الأمة.
3- اذا كان طريقاً لتحكيم المصالح الخاصة، حتى وإن كان هدف الحزب هو المشاركة في التجربة الديمقراطية والفوز بمقاعد في البرلمان، ذلك "أن مقدمة الحرام، حرام، وتعاون على الإثم والعدوان، بل يعد في عرف المتشرعة، من أبشع المنكرات، حيث انه يهيئ لهدم الاسلام...".
من هنا يمكننا فهم الثورة التي انطلق بها سماحة الامام الشيرازي على صعيد الحركة الاسلامية، فقد كان ظهوره موازياً لتجارب حركية كانت تعيش أيامها الذهبية من حيث التنظير والتنظيم والعمل الميداني، مثل حركة الاخوان المسلمون في مصر، وحزب التحرير في الاردن والجماعة الاسلامية في باكستان. وكان مأخذ الامام الراحل على هذه التجارب الكبيرة، أنها لم تكن لتمثل طموح الاسلام بشكل متكامل وصحيح، بقدر ما كانت تجسيداً لافكار خاصة واجتهادات وردود فعل إزاء احداث سياسية كانت تشهدها هذه البلاد.
الاهداف والوسائل
وهنا يسطع نجم سماحة الامام الشيرازي ثانية كأحد المنظرين في الحركة الاسلامية، عندما يقف وبكل قوة وحزم أمام اختراق المقولة الميكافيلية: "الغاية تبرر الوسيلة"، ويستبدلها بقاعدة شرعية أصيلة: "لا يُطاع الله من حيث يُعصى". هذا التميّز في الفكر السياسي يعود بالفضل الكبير فيه لكون صاحب الفكر، شخصية مرجعية، وليس مجرد انسان مفكر يقدم اطروحاته بناءً على تصورات وتجارب معينة، وهذه تعد – بالحقيقة- نعمة عظيمة لا تُضاهى للأمة، بأن يكون هناك مرجع دين يحدد الاحكام والتشريعات السماوية، وما يهمّ الانسان في علاقته بينه وبين ربه، وفي الوقت نفسه يجعله قادراً على تنظيم العلاقة بينه وبين افراد المجتمع والامة بشكل عام، لذا نجد كل الرؤى والافكار تأتي متطابقة مع الفطرة الانسانية والمنطق السليم.
فاذا كان منتهى اهداف المفكرين الاسلاميين، إقامة نظام الحكم الاسلامي في بلادهم، فان سماحته طرح فكرة "حكومة ألف مليون مسلم"، وفي نفس الوقت يضع الضوابط الخاصة بعدم تكرار الاخطاء الفادحة التي ارتكبها القادة المسلمون، ومن تقمّصوا رداء القيادة والخلافة خلال القرون الماضية، وكان من أقبح افرازات تلك الاخطاء – إن صحّ التعبير- سقوط تجربة الحكومة الاسلامية الواحدة اساساً، بسبب الدماء التي أريقت والاعراض التي انتهكت والدمار والتجاوزات ونهب الاموال وظلم بلا حدود، عمّ البلاد الاسلامية منذ الدولة الاموية ثم العباسية، ثم الدول المتعاقبة، وكلها ترفع شعار الدولة أو "الخلافة الاسلامية"، وكان آخرها طبعاً؛ الدولة العثمانية.
من هنا؛ فان سماحة الامام الراحل يؤكد في كتابه القيّم "السبيل الى انهاض المسلمين" بأن "علينا ان نعيد الحكومة الاسلامية الواحدة التي أسسها رسول الله، صلى الله عليه وآله...". هذا هو الشرط الأساس والاول لتطبيق الفكرة. لذا نجد سماحته يؤسس الفكرة على أركان ثابتة ورصينة، ليكون توحيد البلاد الاسلامية "تحت ظل القوانين الإلهية حتى تكون بلداً واحداً، يسير المسلم من طنجة الى جاكرتا، ومن دكا، الى طرابلس الغرب، ويشعر بانه في بلده، وترفع من امامه كل الحدود الاستعمارية القوانين الجاهلية والوضعية".
لكن كيف السبيل الى ذلك؟
هذا هو السؤال الكبير، الذي يعقبه الجواب السريع في نفس الكتاب المشار اليه، حيث يشير سماحته الى شروط لابد من توفرها لتحقيق الهدف الكبير (إقامة الحكم الاسلامي الواحد) الذي يصفه سماحته بان "الحلم الذي رفرف في أذهان الجماهير على مدى التاريخ"، منها: الوعي والتنظيم والاخلاق والسلام.
الرؤية التي انتجت هذه الشروط والمواصفات لأبناء الحركة الاسلامية، تؤكد الأصالة الدينية للفكر السياسي للامام الراحل، فهي تستمد جذورها من الشريعة وايضاً من المنطق والعقل، فالوعي ينتهي الى مبادئ وقيم انسانية، ينفي عن الانسان الذي هو بالضرورة ساحة عمل الحركة الاسلامية، صفة الجهل والتخلف، بل تجعله ينطلق حراً نحو التقدم والابداع، لذا فان الثقافة لديه "تصنع المعجزات".
كذلك الحال بالنسبة للتنظيم، فهو ليس كما ينظر له أرباب الفكر السياسي من قادة ومؤسسي الاحزاب والحركة الاسلامية، إنما يعود بجذوره الى الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، عندما هتف في لحظاته الأخيرة: "الله، الله في نظم أمركم". فالتنظيم ليس للحزب، لانه ينتج الصنمية، إنما لتحكيم القيم والمبادئ بين جماهير الحركة الاسلامية، ومنها – كما يشير سماحته- هي الشورى وتكريس العمل الجماهيري.
أما الاخلاق فانها تمثل ضمير الحركة الاسلامية وثقافتها الصحيحة، بل ربما تكون المرآة التي تعكس عمق وجذور فكرها ونهجها، لأن أي تصرف وسلوك يصدر من القادة او المسؤولين يعكس طبيعة المتبنيات الثقافية لهذا الحزب او تلك الجماعة. وبما ان الاخلاق يمثل الجانب المعنوي في فكر بعض الاحزاب، فان يكون اول ضحاياها لدى عتبة البرلمان او مقر الحكومة، بل وحتى مبنى هذه الدائرة الحكومية او تلك. ويكون المسؤول (ابن الحركة الاسلامية بالامس)، مصداقاً للمقولة الشائعة في عالم السياسية، بان الحديث عن الاخلاق مكانه المسجد او الحوزة العلمية!
والسلام، الذي يمثل احد اركان الفكر السياسي لسماحة الامام الراحل، فانه يمثل شرطاً مهماً لنجاح الحركة الاسلامية الطامحة لتحقيق حلم الملايين، واذا نشهد اصطدام عديد الحركات الاسلامية بالفشل، فان اهم سبب هو انتهاجها غير طريق السلام، سواء في عملها التنظيمي وتعاملها مع الافراد، او في نشاطها السياسي المعارض وصولاً الى السلطة، ويوضح سماحته هذه الحقيقة التي يشوبها بعض اللغط عند البعض، من أن "الحرب والمقاطعة واساليب العنف، ليس إلا وسائل اضطرارية شاذة، على خلاف الاصول الاولية الاسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه....".
ولم يريد مصداقية عملية لهذه الشروط والمواصفات لنجاح الحركة الاسلامية، ما عليه سوى مراجعة التجربة الاخيرة لتجربة الاخوان المسلمين في مصر وتونس، ليعرف حجم الخسارة الفادحة التي لحقت بهم رغم الجهود الجبارة المبذولة طيلة عقود من الزمن، وهذا مآل أي حركة وحزب اسلامي يريد تحقيق اهدافه من خلال تصوراته واجتهاداته ومصالحه الخاصة. فالنتيجة لا تكون سوى مزيد من الدماء والدمار والخسائر الفادحة.
اضف تعليق