على المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه ان يكون أفضل مما كان عليه، وان يعاهد الله سبحانه وتعالى ان يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية...
لشهر رمضان نكهة خاصة وأريج فوّاح يضوع من لياليه وأيامه، يميزه عن شهور السنة كلها، فهو شهر مكلل بالطمأنينة والأمل، تفوح لياليه بالإيمان والورع والتقوى، وتمتلئ لحظاته برغبة الإنسان وتوجهه نحو التعاون والتكافل والعبادة الخالصة لوجه الله تعالى، حيث تتزكى فيه الأنفس، وتجلى فيه النفوس بالبراءة والتحلّي بكل الصفات الإيمانية، والميول إلى التوبة الصادقة، إنه شهر الله بكل ما لهذه الكلمة من معنى، شهر زاكٍ، يجعل النفوس في قمة الاستعداد لعمل الخير، والاندفاع نحو العمل المبارك، والإحساس العالي بالآخرين من الفقراء والمحتاجين.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم، الموسوم بـ (شهر رمضان شهر البناء والتقدم):
(يطلّ علينا كل عام شهر رمضان بعطره الزاكي بنسيمه الفوّاح، الذي ما أن يلمس النفوس حتى يجعلها على أهبّة الاستعداد لتلقي كلمات الإنابة والتوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى).
أما مصدر الإلهام والمضيّ في طريق التقدم والبناء، فيأتي مما يصنعه هذا الشهر الكريم من أسباب ودوافع نفسية إيمانية تملأ نفوس الناس بالرأفة والبهجة والاندفاع برغبة أصيلة وإيمان نافذ، نحو نشر الخير في القلوب والأرواح، فتنهض من خمولها وانكسارها، بعد أن يضمّد جراحها هذا الشهر المتميز بأجواء الخير والرحمة وحب العمل الصالح، حيث تشيع مباهج التقوى لتملأ القلوب والنفوس بأريجها الذي يفوق بعذوبته ونكهته كل أريج، فترتاح النفس وتطمئن، وتندمل جروح القلب الملتاع، وتضمحل متاعب الحياة ومشقّتها.
فيخفّ ثقل الحياة على قلب الإنسان، ويصبح في هذا الشهر أكثر استعدادا للتعاون مع المحيط الاجتماعي، ويبدي قدرته على الانسجام بإيمان قاطع، مع كل عمل خير يهدف إلى نشر الفضيلة والخير والتعاون بين الأخوة المؤمنين، لذلك نلاحظ قلة الأحقاد وانطفاء نار الضغائن، وانتشار ملامح الرحمة في جميع القلوب، فتندحر الخلافات وتسود البهجة والتفاهم بين القلوب والنفوس، فتنتعش العلاقات المتبادلة أيما انتعاش، وتزدهر الزيارات المتبادلة، ويعيش المؤمنون في دوحة السعادة والإيمان التي تصنعها الأجواء الرمضانية المتميزة.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة إلى النفوس المعذّبة والقلوب المنكسرة والأجساد المنهكة، انّه ضماد لجراحات القلب والجسد؛ يخفّف عنها عناء الحياة ومشاق العمل والكدّ، في لياليه المقمرة بالآمال وبأيامه الزاخرة بالعلاقات والزيارات وبالمحبة المتبادلة).
شهر رمضان يجدد أيام المؤمنين
ومما يمتاز به هذا الشهر من مزايا وصفات، أنه يجدد حياة المؤمنين، والتجديد هنا ليس شكليا أو مظهريا، بل يحدث في أعماق الإنسان، لذلك تتجدد أيام المؤمن وليس ملابسه، على الرغم من أن الإنسان يسعى لارتداء أجمل ما يمتلك منها، لكن التجديد الأهم والأفضل والأكثر تأثيرا، هو تجديد أيام المؤمن من خلال تجديد جوهره الداخلي وأعماقه، وليس الشكل الذي يمكن أن يغيره الإنسان في أي وقت.
ولعلنا نؤمن ونفهم بأن التغيير الأعظم هو ذلك الذي يطول القلب ويغير أعماق الإنسان وجوهره، فيكون إيمانه عظيما صادقا، وتكون أعماله مليئة بالصدق، وتصبح أوقاتها كلها وقدراته مهيّأة لخدمة المحتاجين، وكلما كان المؤمن أكثر عطاءً يكون تأثير هذا الشهر فيه قويا، إذ لا مجال للتظاهر بالإيمان أو التقوى، فشهر رمضان يمنح المؤمنين الإيمان الصادق العميق والتقوى والعمل الصالح، لأن هذا الشهر مختلف عن سواه، ويساعد المؤمنين على الرحمة والإيثار.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله:
(شهر رمضان، شهر جديد من بين بقية الشهور لأنه يمتاز عنها بأشياء كثيرة، يريد للمؤمن ان يكون جديداً في كل أيامه، جديداً لا بملبسه.. حيث اعتاد البعض ان يرتدوا أجمل ما عندهم من الملابس).
كذلك لا يقتصر التجديد على مأكل المؤمن، نعم بعضهم يسعى إلى الطعام الجديد اللذيذ، ولكن ليس هذا هو المهم في شهر رمضان الكريم، نعم هنالك من يسعى لشراء الطعام الأفضل في الكم والنوع، فيشتري كل ما تشتهيه النفس، كأن شهر رمضان غايته الطعام الجديد، لكن هو ليس كذلك، إنه شهر التكافل وشهر الفقراء والمحتاجين، فهذا شهر الصيام وليس شهر الطعام كما يؤكد الإمام الشيرازي، وبعضهم لا يرى في هذا الشهر تدريبا على الجوع وتحمّل الظمأ، ولا يعتقد بأن الصيام فعل عميق للشعور بمعاناة الفقراء والاندفاع بقوة لمساعدتهم بعد أن يجرب المؤمنين الجوع ويكتشفون بالتجربة الحية ما يعانيه الفقراء بسبب ضيق الحال.
لذلك يقول الإمام الشيرازي:
إن شهر رمضان يجب أن يجعل المؤمن (جديداً لا بمأكله.. حيث اعتاد بعض الناس أن يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد. فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام. وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم).
محاسبة النفس
وحينما يأتي شهر رمضان الكريم في كل عام، يصبح محطة مهمة تذكر المؤمن بأهمية مراجعة نفسه، وتصحيح ما بدر منه من أخطاء على المستوى الذاتي أو مما ألحقه بالآخرين من تجاوز وأذى، لذلك في كل رمضان جديد ينبغي أن يكون المؤمن متجددا في جوهره وعمق إيمانه، على أن يترجم ذلك في أعماله التي ستكون شاهدا عليه، وتؤكد أنه استفاد من هذا الشهر لكي يصبح إنسانا أفضل.
لذلك ينبغي على المؤمن أن يعاهد الله تعالى، أن يكون لبنة قوية صحيحة تزيد من قوة الإسلام، كي يعلو صرح المسلمين ويصبح الإسلام أكثر قوة وتأثيرا وحضورا على مستوى العالم أجمع، وكلما كان المؤمن أكثر صلاحا كان الإسلام أقوى، وشهر رمضان يمثل أفضل الفرص والمناسبات لكي يصبح الإنسان داعما لنفسه وللإسلام في الوقت نفسه.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي بقوله:
(على المؤمن أن يصمم في هذا الشهر مع نفسه ان يكون أفضل مما كان عليه، وان يعاهد الله سبحانه وتعالى ان يكون لبنةً جديدة تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية).
أما سبب حاجة الإنسان إلى وقفة محاسبة النفس، قإنها تعود إلى تراكم الأخطاء، والحاجة إلى تنظيفها وإزاحتها من أعماقه، وهذا الفعل ينبغي أن يتم في شهر رمضان، لأنه الوقت والفرصة المثالية للقيام بهذا الفعل الذي يعيد للإنسان رونقه الروحي واستعداده للقيام بالأعمال الخيرية التي تفصح عن استعداده للتصحيح والتعاون مع الآخرين من أجل أن يكون شهر رمضان بأجوائه محطة للخير والتكافل والتآزر فيما بين المؤمنين، كما أن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان تشبه الغبار الذي يعلق به بسبب ارتكابه لهذه الأخطاء، وعليه أن ينفضها ويزيحها عن قلبه وروحه لكي يكون أكثر انسجاما مع شهر رمضان وأجوائه الإيمانية المباركة.
من هنا يقول الإمام الشيرازي:
إن (الإنسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأنّ غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة وتحول بينه وبين طريق التقدم. فلابدّ من غربلة تمهد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، لابدّ من نقضٍ لما علق بالإنسان من غبار الجهل واليأس والتخلف).
اضف تعليق