الاسلام فكرة عالمية، بينما الانسان المسلم المعاصر، فان حدود تفكيره لا يعدو عن أمرين: الإطار الشخصي، ويبحث عن: ماذا اكلت؟ ماذا شربت؟ اين ذهبت؟ كيف سافرت؟ كيف بنيت؟ ما نوع سيارتي؟ كيف يجب ان تكون زوجتي؟ ما هي ملابسي؟، هذا الاطار يشبه اطار تفكير الحمامة والعصفور!، الإطار الآخر؛ له بعض السعة، ويبحث عن الشارع والحديقة، المعلم في المدرسة، والتلاميذ وما أشبه...
إحدى عوامل التقدم الحضاري؛ توظيف القوى والقدرات للانتشار والتأثير على المحيط الخارجي الى أبعد ما يمكن. هذه النزعة التي تبدو غريزية وبديهية لدى البعض، تغيب بشكل غريب عن منظومة تفكير البعض لمجرد حركة غير سوّية داخل نفس الانسان تدفعه للتقوقع على الذات وإعطاء الأولوية للأنا قبل الغير، ولذا عندما نقول: إن اليابانيين والالمان والاميركان وسائر الدول المتقدمة والمؤثرة في العالم، إنما وصلت الى ما وصلت اليه، من خلال لجم الأنا وتحجيم الرغبات الشخصية، فالساعات الطوال من التفكير والتخطيط؛ ليل نهار، والمتابعة والمواظبة وغيرها، كلها تستهلك قوى ذهنية وعضلية تجعل الانسان يؤجل التفكير براحته وتمتعه بالملذات.
واذا نظرنا الى ثروات وممتلكات البلاد الاسلامية طيلة قرن من الزمن، ثم نقارن مع الواقع الذي تعيشه اليوم، نصاب بالذهول والصدمة والأسف الشديد ايضاً، وهذا ما حذر منه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي قبل اكثر من اربعين عاماً في تسجيل صوتي له، والمثير للغرابة ايضاً، أننا نشهد استمرار وجود نفس المشكلة في كيان الامة دون أن يلتفت اليها أحد!
لنتابع ما جاء في هذا المقطع الصوتي:
"الاسلام فكرة عالمية، بينما الانسان المسلم المعاصر، فان حدود تفكيره لا يعدو عن أمرين:
الإطار الشخصي، ويبحث عن: ماذا اكلت؟ ماذا شربت؟ اين ذهبت؟ كيف سافرت؟ كيف بنيت؟ ما نوع سيارتي؟ كيف يجب ان تكون زوجتي؟ ما هي ملابسي؟
هذا الاطار يشبه اطار تفكير الحمامة والعصفور!
الإطار الآخر؛ له بعض السعة، ويبحث عن الشارع والحديقة، المعلم في المدرسة، والتلاميذ وما أشبه.
إن الاسلام يعني التفكير بالمسلمين في الفلبين، وفي الصين، وفي فلسطين، وفي اميركا، بل ويفكر في هداية غيرهم الى الاسلام، ويفكر في حل مشاكل الناس، وليس التفكير فقط، بل والعمل ايضاً، والعمل يعني أن من يتقاضى مبلغاً من المال لمرتبه الشهري يقتطع جزءاً منه لهؤلاء، والتقليل من النفقات الجانبية على الحياة الشخصية، فليس من الضروري أن تكون وجباتنا الغذائية مشحونة باللحوم دائماً، ولا أن تكون ملابسنا من ماركات معينة ونوعيات خاصة.
إن هذا الجزء من المال المقتطع من شخص واحد عندما يجتمع مع مبالغ اخرى مشابهة لعدد من الناس فانه يتحول الى مبلغ كبير له تأثير بالغ جداً على نشر الاسلام في العالم.
لنأت بمثال؛ اذا كان من بين مائة الف بيت في الكويت، ألف بيت فقط تغذي النشاطات الاسلامية في العالم، أي سمعة تكتسبها دولة الكويت وشعب الكويت في العالم، حيث تكون هنالك المدارس والمكتبات والمؤسسات باسم الكويت!
ما فائدة ان يمتلك الانسان الملايين في رصيده المصرفي اذا لم تتحول الى مشاريع وأعمال عالمية؟ وهذا يحتاج الى سعة تفكير ورؤية بعيدة المدى، وهذا ما يريده الاسلام، في حين نلاحظ البعض يتوقع في "الأنا" وكل شيء يريده لنفسه، ومن يصرّ على هذا المبدأ فانه يقرن نفسه بالقطة! لانها لا تفكر إلا بنفسها، وهي غير قادرة على غير هذا، لانها تعمل بشكل غريزي، بينما الانسان قادر على توسيع أفق تفكيره، ولا يكون مصداق للآية الكريمة؛ {...إن هم إلا كالأنعام بل أضلّ...}.
ماذا فعل لورنس العرب؟!
جاء في مذكرات المبعوث البريطاني الى الشرق الأوسط، والذي نطلق عليه بانه "جاسوس" بأني جعلت أفراد القبائل العربية في الجزيرة العربية يتقاتلون فيما بينهم لتوفير الحماية لي"!
كيف حصل هذا؟ ومن هو لورنس، وهو ضابط البريطاني، وليس رجل من القبائل العربية، ولا هو مسلم حتى يندفع الرجل العربي – مهما كان مستواه الثقافي والديني- للدفاع عنه كما تقتضي التقاليد العربية؟
نقطة في أعماق النفس الانسانية وضع لورنس يده عليها، وهي؛ حب الأنا، فأخرج الرجل العربي من حب الآخرين، الى حبّ الذات، وذلك بالتغرير والتضليل، مستفيداً من الفقر الشديد الى الثقافة والعقيدة، فغابت جميع التوصيات والاحكام التي سنّها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في نفس المنطقة تحديداً – الجزيرة العربية- بأن "حب لأخيك كما تحب لنفسك"، وهو الشعار الذي لم ينتبه أحد بضرورة تعليقه في كل بيت مسلم، كما علّق الغربيون كلمات الامام علي، عليه السلام، الخاصة بالعلاقات بين بني البشر؛ "الانسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
عندما تحدث النبي الاكرم عن المؤاخاة والتسامح والتواصي بين المسلمين، إنما لبناء المجتمع الاسلامي بشكل متماسك لا يُقد منه مهما كانت الظروف والتحديات، وكانت للصديقة الزهراء، عليها السلام، مساهمة غاية في الذكاء والاهمية، بإشارتها الى الجار، وأنه "الجار ثم الدار"، فهي كامرأة لها تأثير وامكانية اكثر من الرجل في بناء العلاقات الحسنة بين العوائل الساكنة في منطقة واحدة.
إن الاهتمام المفرط بالامور الشخصية وإعطائها أولوية على ما يدور في المحيط الاجتماعي، هو الذي يشير اليه سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي ويعده العقبة أمام المبادرة الى مساعدة الآخرين؛ مادياً ومعنوياً، فعبارة "شعليّه" باللهجة العراقية، ومرادفاتها في اللهجات العربية، وغير العربية، هي المسؤولة عن تكريس حالة التقوقع والانكفاء على الذات التي ما تزال قائمة كأحد عوامل التخلف والتمزق في الامة بشكل عام.
ضياع الاموال المجمدة
من العيوب الكبيرة في اقتصاديتنا (في البلاد الاسلامية) ارتكازنا في التنمية على عنصر البناء والعقار وتملك البنايات والابراج والمتاجر، وعدّها نقطة القوة في شخصية الانسان الثري، فمن له دار يملكه وسيارة من الطراز الجيد، مع رصيد يعتد به في المصارف، فهو حسب المقاسات الاجتماعية الحالية، افضل حالاً بكثير من الانسان الذي يسكن في دار مستأجرة ويستخدم سيارة أجرة وليس له رصيد في البنك، فذاك ضامن لحياته ومستقبله، مع افراد عائلته، بينما الآخر في مهب الريح! وهي نظرة من صميم الواقع الفاسد بلا جدال، ولكن؛ هل هو الصحيح؟ وهل أدى هذا الواقع الى خلق حياة سعيدة وآمنة ومستقرة لأفراد المجتمع ومنهم الثري المطمئن؟
الامام الشيرازي – طاب ثراه- له رؤى وافكار عديدة في مسألة الانفاق وعدم اكتناز المال وتجميده، يمكن اختصارها بـ "انفقوا لكي تتقدموا"، وهو عنوان كتاب يضم بعض تلك الرؤى الاصلاحية والحضارية.
وبنظرة خاطفة على اقتصاديات البلاد الغربية، ليس اليوم، وإنما منذ انطلاقتها الاولى منذ اكثر من قرن من الزمن، أنهم تبنوا فكرة تفعيل المال في المصنع والمنجم وإنشاء الطرق والزراعة والثروة الحيوانية، وكل هذا، فضلاً عن طابعه التجاري والربحي، فان طابعه الاجتماعي واضح جداً، حيث يفتح الابواب مشرعة أمام العمال المزارعين للعمل والانتاج والابداع.
هذه هي الفائدة المادية الملموسة لتحريك المال وبعث الروح فيه، وفي خطوة اخرى الى الامام، نصل الى الفائدة المعنوية التي يتحدث عنها سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي عندما يحثّ ابناء الشعب الكويتي في سبعينات القرن الماضي، كما يحثّ كل من يستمع الى هذا المقطع من الاجيال القادمة، بأن يكون تفكيرنا بسعة النظام الاسلامي الذي ننتمي اليه، فالرحمة والاخلاق والحرية والعدل وغيرها من القيم السماوية جاء بها الاسلام لتعمّ البشرية جمعاء، وعلى طول الزمن.
ولنا ان نتساءل عن طريقة حياة أولئك التجار الاثرياء الذين وصلوا الى الهند ثم الى اندونيسيا والصين، ومن وصل منهم في الفترات التاريخية اللاحقة الى افريقيا واوربا والاميركيتين، هل كانوا منطوين على ذواتهم ويعتنون بأناقة ملابسهم وبقصورهم وسياراتهم؟
وأي أخلاق نقلوها الى تلك البلاد البعيدة، وهم يحملون بضائعهم للتجارة، حتى دفعوا الناس هناك للإيمان بأحقية الاسلام وأنه الدين الحق؟
اضف تعليق