لعل المشكلة الاكبر في تطبيق النظرية الديمقراطية على واقعنا، وتحديداً الواقع العراقي، هو فقدان المعايير والموازين الصحيحة لقيم الحق التي لا يختلف في صحتها أحد، فالجميع يدّعي انه على حق، حتى حاكم ديكتاتوري ودموي، وأي حاكم آخر يرجو المشروعية والاستمرارية لحكمه، من هنا؛ يأتي الاسلام ليحدد المعايير بما ينسجم مع الحاجات الحقيقية للإنسان...
المقدمة
بذل العديد من المفكرين جهوداً مضنية لرسم طرق وسبل تؤدي بالشعوب الى تطبيق نافع للديمقراطية، كنمط للحكم، ونوع صالح من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكان تعدد الخيارات بتعدد الظروف الاجتماعية والمستويات الثقافية، فالنظرية الديمقراطية ظهرت لتحل مشكلة الحكم الفردي (الديكتاتوري) في زمان ومكان خاصين، ليس بالضرورة ان ينطبق على الظروف الزمانية والمكانية لسائر شعوب العالم، فقد ابتكر فلاسفة الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد فكرة ان يحكم الشعب نفسه بنفسه، فولد مصطلح "ديمقراطية"، وهي ترجمة لكلمتين يونانيتين؛ "ديموس" وتعني الشعب، و"كراتوس" وتعني الحكم، وشهدت أثينا القديمة (الاغريقية) أول تجربة للديمقراطية بالصورة المباشرة، حيث يحضر الاعداد المعينين من الناس للمشاركة في صنع القرار.
أما الانتقادات والمآخذ على هذه النظرية، فهي لم تبدأ اليوم أو البارحة، إنما واكبتها منذ ولادتها الاولى، فقد انتقدها كبار الفلاسفة اليونان، وفي طليعتهم؛ سقراط وتلميذه افلاطون، والتقوا في انتقادهم الشديد لهذه النظرية على نقطة واحدة تتخلص في كفاءة الجماهير المشاركة في صنع القرار والخشية من دخول غير الاكفاء وغير الحكماء في العملية الديمقراطية، وطرح افلاطون آنذاك فكرته بأن "يكون الفلاسفة حكاماً، او الحكام فلاسفة"، وقبله استاذه سقراط حذر من مشكلة الجهل في المشاركين في هذه التجربة، حيث يقول: "هناك شئ واحد صالح وهو المعرفة، وشر واحد، وهو الجهل".
والسؤال الذي مايزال يؤرق العلماء والمفكرين؛ ما هو السبيل لأن يكون الانسان صالحاً وواعياً وعارفاً بأمور زمانه؟
سماحة المرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يؤشر الى جواب لهذا السؤال، علماً أنه سبر غور قضية الحكم والسياسة والمشاركة الجماهيرية في مؤلفات عدّة، وجه قسماً منها صوب الحوزة العلمية تحت عنوان "الفقه السياسية" ليكون إسهاماً منه في بلورة رؤية اسلامية، فيما وجه القسم الآخر الى عامة الجماهير لمزيد من تكريس الوعي السياسي وتوسيع الشريحة المثقفة في الساحة، ولتدرك أن طريقة الاستفادة القصوى من الديمقراطية ليس ببعيد عنهم، وبامكانهم العيش برفاهية وسلام، لنقرأ ما جاء في المقطع الصوتي:
"الحكم ألوان، وآخر ما توصلت اليه البشرية في هذا المجال، الصيغة الديمقراطية، والديمقراطية مشتقة من "ديمكراتيس" وهو عالم يوناني، غربي، ابتكر هذه الصيغة للحكم فتبناه العالم، وما يزال، وهو ابتكار رائع جداً، ويقضي بأن ينتخب الناس رئيس الدولة وأعضاء البرلمان بانفسهم بطريقة خاصة.
ثم جاء الإسلام وقرر هذا الشيء مع فوارق، وفي القرآن الكريم ثمة آيتان تسميان بـ "آية الشورى"، إحداهما؛ وهي موجهة الى رسول الله بأن {وشاورهم في الأمر}، والآية الثانية: {وأمرهم شورى بينهم}، والفارق بين الشورى الاسلامية، وبين الديمقراطية اليونانية – الغربية في ثلاث أمور:
الامر الاول: في المنتخِب
في الاسلام ان الانسان الذي يبلغ سن التكليف الشرعي يحق له المشاركة في الانتخابات، بينما القوانين العالمية تشترط ببلوغ سن الثامنة عشر، او التاسعة عشر أو العشرين او الواحد والعشرين من العمر، فالاسلام يرى في هذا الانسان رجلٌ كامل بغض النظر عن أي اعتبار آخر.
الامر الثاني: في المنتخَب (النائب)
الاسلام يطالب بمن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية او النيابية بأن يكون عالماً بالاحكام الاسلامية، فلا يجوز انتخاب ما لم يحط علماً بالنظام الاسلامي، حتى لا يصل المنتخب الى منصب النيابة في البرلمان او الوزارة او الرئاسة، ثم يحكم بما لم ينزله الله تعالى من الاحكام والقوانين، و ايضاً يجب ان يكون عادلاً، أي لا يظلم أحد ولا يعصي الله في صغيرة ولا كبيرة، لان الانسان غير العادل هو ذلك الذي يتجرأ على الرشوة والارتشاء، وبيع البلاد، والاحتكام الى القوانين الذي تحلق الضرر بالبلاد.
الامر الثالث: القانون
الاسلام لا يعطي الحق لأي انسان، حتى لرسول الله، صلى الله عليه وآله، بأن يزيد في أحكام الله –تعالى- او ان ينقص منها ولو بمقدار شعرة واحدة، فالحكم لله، بمعنى؛ ان مجلس النواب، او مجلس الشعب او مجلس الامة، وأمثالها، إنما هم منفذون وليس مشرعون للقوانين، ولذا لا يجوز تشريع قوانين في مقابل قوانين الله –تعالى- ، تبقى الامور المتعلقة بالحياة، من؛ سلم أو حرب، او اقتصاد، او مجتمع، او ما أشبه ذلك، فهذا من مهما مجلس النواب لمناقشة قضايا كهذه، لا أن يشرعوا ويضعوا الحلال والحرام، فهذا من شأن الله –تعالى- وحده.
كيف نضمن نجاح الديمقراطية؟
اذا عجزت الانسانية طيلة القرون الماضية، ومنذ انبلاج الفكر الانساني وحتى اليوم، عن ايجاد السبيل الصحيح لإنقاذ الانسان من الجهل، وأن يكون عالماً وعارفاً وحيكماً، فان الاسلام تكفّل بالامر خلال عديد الآيات الكريمة في القرآن الكريم التي تؤكد على القيمة العليا للإنسان، فتدعوه للتفكّر والتدبّر، علّه يكون من الموقنين، والمتقين، ومن أهل العقل والمعرفة.
وقد حدد علماؤنا مصادر المعرفة بثلاث طرق: الاول؛ الوحي، وهو الكتاب المنزل من السماء، والثاني؛ العقل، وهو النور الإلهي الذي وهب للانسان ليكتشف به الحقائق في الحياة، ويعرف الخير من الشر، والحق من الباطل، والثالث؛ الحواس، وهي الوسيلة المباشرة لاكتشاف الحقائق على ارض الواقع، لذا نرى التوجه الانساني واضحاً في رؤية الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي وهو يسهم في عملية بلورة رؤية محددة إزاء الديمقراطية بعد أن يثني عليها كنمط للحكم بشرط تطويره وتحديثه وفق القيم السماوية الراعية بالاساس لمصلحة الانسان وخيره في الحياة، وفي مقدمتها؛ العدل، والعلم، فالايمان بعدل الله –تعالى- يفتح امام الانسان مسارات فكرية للبحث عن مصاديق هذا العدل، وفيمن يتجسد؟ وهذا لا يتوفر إلا بالعلم والمعرفة، وإلا نكرر مقولة ذلك الشخص الذي وقف امام النبي الاكرم، مخاطباً أن "ما عدلت يا محمد"! وهذا يجسد لنا حالة الجهل وانعدام الوعي.
ولذا نجد سماحة الامام الشيرازي يؤشر على ثلاثة تعديلات على النظرية الديمقراطية لتكون جاهزة للتنفيذ في بلادنا الاسلامية، وباجمعها تصب في مصلحة الانسان وتراعي تكوينه وقدراته.
التعديل الاول: إعطاء حق المشاركة في الانتخابات لمن يبلغ سن التكليف الشرعي، وهو الخامسة عشر من العمر للبنين، والتاسعة للبنات، فالانسان الذي يجد نفسه مرتبطاً بعلاقة من نوع العلاقة بين العبد وربه، حيث الثواب والعقاب، والأمل والرجاء، والترغيب والترهيب، فانه بالضرورة ان ينعكس هذا اللون من العلاقة في العلاقات البينية مع الناس، وايضاً في العلاقة مع من يحكمه ويقوده في طرق النهضة والتحرر والنمو والتقدم.
وكذا الحال بالنسبة للتعديل الثاني والثالث الذي يشدد فيه سماحة الامام الشيرازي على الاحتكام الى قيم واحكام السماء، وان اعتماد غيرها لن يؤدي إلا الى فساد حال الانسان وتعرضه للكوارث والمآسي، وهذا يؤكده المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه "التشريع الاسلامي – مناهجه ومقاصده"، الجزء الثامن، ص115، في فصل خاص بالحكم بان "تنظيم العلاقة الاجتماعية على محور الحق هو الاساس لبناء المدينة العادلة، والكتاب النازل من عند الله يهدف هذا النمط من نظم العلاقة".
ولعل المشكلة الاكبر في تطبيق النظرية الديمقراطية على واقعنا، وتحديداً الواقع العراقي، هو فقدان المعايير والموازين الصحيحة لقيم الحق التي لا يختلف في صحتها أحد، فالجميع يدّعي انه على حق، حتى حاكم ديكتاتوري ودموي مثل صدام، وأي حاكم آخر يرجو المشروعية والاستمرارية لحكمه، من هنا؛ ياتي الاسلام ليحدد المعايير بما ينسجم مع الحاجات الحقيقية للانسان، ولذا يحذر الامام الشيرازي من مغبة تورط نواب البرلمانات في البلاد الاسلامية في مسألة التشريع للحيلولة دون الاصطدام بين القوانين الوضعية والقوانين الإلهية، إنما مهمة نواب مجلس النواب المنتخبين هو تنفيذ القوانين والشريعة الإلهية التي ألمّت بكل تفاصيل الحياة، من زواج وعمل وتجارة وبناء وحقوق فردية وحقوق عامة، وإن كان ثمة تقنين، فانه يأتي مكملاً لأصل القانون الاسلامي، ومثالنا في ذلك؛ قانون المرور، الذي ما يزال غائباً عن اهتمام نواب البرلمان العراقي، فهو قانون مكمّل لقوانين "لا ضرر ولا ضرار"، و وضع الحدود الاخلاقية بين الحرية الفردية وحقوق الآخرين.
وللوقوف على آلية البحث عن القوانين الصحيحة ونتخلص من التناقضات بين قانون وآخر، يشير المرجع المدرسي في كتابه بالفصل نفسه، بان "الحق يوزن بالعدل ويحكم به الرجال العدول، هو ميزان حكم الله"، ثم يضيف: "يتمثل الحكم بالحق في القضاء بالعدل بين طرفي المعادلة، ولكي نعرف الموضوعات التي تجري عليها الاحكام، علينا ان نراجع أهل العدل، ولكي نعرف العدل، علينا ان نعرف الظلم فنتجنبه.
وعليه؛ فان الديمقراطية كنظرية وتطبيق بإمكانها تحقيق مطالب الناس وتأمين حقوقهم وتوفير الامن والنظام في المجتمع، بل وتشييد دولة ترنو الى النمو والتقدم، اذا ما اتجهت نحو المباني الفكرية السامية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، كما يحصل مع التصورات والافكار البشرية القاصرة التي يدّعي اصحابها، الصواب وأنها الأمل في حياة افضل للناس.
اضف تعليق