إسلاميات - الإمام الشيرازي

السبيل الى قائد يصنع الأحرار

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه-

من يعيش الاستعباد في ظل الديكتاتورية العسكرية او الديكتاتورية الحزبية، ويجد نفسه في قفص جميل وكبير، لن يتوجه كثيراً الى ما يكتب على اللافتات من وعود الحرية والكرامة والاستقلال وغيرها، ولا الى ما تضمه الكتب والمطبوعات، ولا حتى وسائل الاعلام الحديثة، إنما ينظر الى....

مقدمة

من يعيش الاستعباد في ظل الديكتاتورية العسكرية او الديكتاتورية الحزبية، ويجد نفسه في قفص جميل وكبير، لن يتوجه كثيراً الى ما يكتب على اللافتات من وعود الحرية والكرامة والاستقلال وغيرها، ولا الى ما تضمه الكتب والمطبوعات، ولا حتى وسائل الاعلام الحديثة، إنما ينظر الى واقعه السيئ وعوامل نشوئه، فما يقرأه ويسمعه يرنو الى الأمد البعيد في بناء المنظومة الثقافية للمجتمع، بينما يحتاج هو الى معالجات فورية تساعده الى صنع ثورة ذاتية من الداخل لتكن مقدمة للثورة على الواقع الخارجي السيئ ومن ثم تغييره، فمن الذي يقوم بدور المساعدة هذه؟ وأي قوة هذه التي تخلق ثورة داخل ثورة؟

انه مقطع قصير من محاضرة لسماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- يستشهد فيها بقائد ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي – طاب ثراه- في مناقشته صفة التكبر واستعباد الآخرين، وهذا هو الذي صنع من الميرزا الشيرازي، قائداً، ومن العراقيين – في تلك الايام- ثواراً ومجاهدين يواجهون أقوى دولة استعمارية في العالم آنذاك.

"الناس لا يقدرون المتكبرين، والذين يطلبون من الناس ان يخدمونهم.

المرجع الديني الأعلى في زمانه؛ السيد محسن الحكيم، نقل لي هذه القصة شخصياً، بأنه رافق الميرزا الشيرازي في زيارة له لمسجد السهلة في الكوفة أيام الانتفاضة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني، وذلك للتوسل بالإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، والدعاء بنجاح الثورة، وكان يرافقه ايضاً جمعٌ غفير من الشخصيات العشائرية والعسكرية والعلمية، وبعد الصلاة في مقام الإمام الحجة، والدعاء الى الله –تعالى- بتعجيل النصر للثوار والمجاهدين، خرج الميرزا الشيرازي، وخرج معه موكب ضخم من العلماء وقادة الثورة وعدد غفير من الناس ممن كانوا يحملون السلاح.

وبينا نحن نغادر مسجد السهلة – يواصل السيد الحكيم روايته- وجدنا الميرزا الشيرازي يبحث في جيوبه عن شيء ما، فسألناه عما اذا اراد شيئاً او نساعده بشيء، فلم يقل شيئاً، بل قفل راجعاً الى المسجد ليأخذ المحبرة والقلم الخاصة به، وتسمى قديماً "قلمدان"، وهي عبارة عن علبة تحتوي على المحبرة والقلم، وقد نساها الشيخ في مكان صلاته، فأخذها ووضعها في جيبه ومضى في طريقه أمام حيرة ودهشة الحشود المرافقة له.

وقد نقل لي والدي (المرجع الديني السيد ميرزا مهدي الشيرازي) أنه طيلة فترة مصاحبته للميرزا الشيرازي، لم يحصل أن طلب من انسان يوماً، شيئاً ما، إنما كان يحرص على أن يقوم بكل شيء بنفسه، من جلب الماء للشرب، الى إحضار ملابسه، وأي أمر آخر، صغيراً كان أم كبير.

هذه الخصلة الاخلاقية هي التي جلبت التوفيق الإلهي للميرزا الشيرازي لأن يكون قائداً لثورة العشرين، فهذا لم يأت اعتباطاً، وفي الحديث القدسي، أن الله –تعالى- خاطب نبيه موسى، عليه السلام، أن "يا موسى! قلبت خلقي ظهراً بظهر، فلم أجد من هو أكثر تواضعاً منك، ولذلك جعلتك كليمي".

هل التواضع مدعاة للضعف؟

ثمة تصور لدى الكثير ممن يتسنّمون مواقع حكومية او ادارية، او حتى مكانة اجتماعية، بأن من سمات الشخصية القوية والمؤثرة، وجود طاقم خدمي حولها يقضي لها حاجاتها الشخصية، من فتح الغرفة، الى جلب الماء والشاي وفتح باب السيارة، وإحضار كل ما يطلبه لنفسه، وحتى لما تحتاجه العائلة في البيت، أما الذي يفتقد لطاقم كهذا، ويلبي حاجاته بنفسه، وهو في موقع المدير او الوزير وما أشبه من المسمّيات، فان المحيطين به سينظرون اليه بعين صغيرة – كما يقال- .

ورب من يلقي باللائمة على الطرف الآخر، بأن المشكلة فيمن يتصاغر أمام ذاك المتعالي والمتكبر طلباً للمال او الوظيفة، فان انتفى الأمر انقطعت العلاقة نهائياً، وهذا صحيح في جانب منه، بيد أن هنالك من يحوم حول كثير من الشخصيات ليس بدافع مادي، وإنما بدافع معنوي بحت، فالقناعة الراسخ لديه بأحقية هذه الشخصية الاجتماعية كأن يكون شيخ عشيرة أو عالم دين أو رجل ثري في منطقة سكنية، هي التي تدفع البعض للتصاغر والتزلف بهذا العمل او ذاك، ربما لتحقيق بعض المكاسب المادية في قادم الايام، كما تتدخل العصبية لتكون من عوامل الدفع في هذا الاتجاه وتكريس المزيد من ظواهر التعالي في المجتمع.

ولذا فان سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي يدعو الشريحة المثقفة والمتصدية للساحة السياسية والثقافية ايضاً، بأن تحذر من الانزلاق في مهاوي الكِبر والتعالي على الآخرين، لسبب بسيط أن الناس – كما يقول ويؤكده العلماء والعقلاء- تنفر من المتكبر الذي يريد استعباد الآخرين، وأن يقوموا بخدمته استناداً الى عناوين مختلفة، في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يقول: "من الواجب أن يلتزم الانسان الذي يريد تحقيق الهدف المتواضع، التواضع للكبير، وللصغير، وللعالم، وللجاهل، وللغني، لا لغناه، وإنما لجذبه الى الهدف، وللفقير، ولسائر الناس، وفي الحديث الشريف: "تواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلمونه".

وفي هذا الكتاب يستشهد سماحته بالرسول الأكرم وأمير المؤمنين، عليهما السلام، بأمثلة عن التواضع لافراد المجتمع، بما يثير دهشتهم وعدم رضاهم عما يقومون به، وهكذا كان دأب الأئمة المعصومين، عليهم السلام، ومن بعدهم العلماء والقادة المصلحون والثائرون، فكانوا بين الناس؛ يحاكون اوضاعهم المعيشية وحقوقهم وما يفكرون به لقادم الأيام، وهذا لم يجلب لهم الضعف والهوان، بل العكس تماماً؛ اصبحوا مناراً لمن يريد التغيير الحقيقي والإصلاح في المجتمع.

وهذا تحديداً ما عجز عنه الكثير من الساسة في العراق – إن لم نقل جميعهم- ممن يدعون الأهلية لقيادة البلد وإدارته في ميادين الاقتصاد والقضاء والخدمات والامن وسائر المرافق العامة، فقد بات التعالي والتكبر من أبرز مكونات جدار عدم الثقة القائم حالياً بين الشعب العراقي وبين الشريحة السياسية الحاكمة، وقد بدأت سلسلة التجاوزات على مشاعر الناس وحقوقهم، منذ الايام الاولى لظهور "الدولة الديمقراطية" على أنقاض نظام صدام، بدءاً من تهور السيارات المظللة في الشوارع، وليس انتهاءً بغيابهم المريب بعد الانتهاء من فرز أصوات الناخبين والوصول الى كراسي البرلمان والوزارات والمناصب الحكومية.

إن الذي يضمن وجود السياسي في منصبه، ليس فقط عدد الاصوات في صناديق الاقتراع، لانها تأتي من عدد محدود من الناس، وربما هنالك الكثير ممن يعزفون عن المشاركة في الانتخابات، وإنما في عدد الأحرار الذين يصنعهم القادة ومن يعدون انفسهم ممثلين عن الشعب ويسعون لتحقيق ما يريد، فالذي يؤمن بشخصية ما جسدت امامه القيم الاخلاقية والانسانية، هو الذي سيدافع عنه وعن افكاره ويتفاعل مع برامجه ومشاريعه، ثم يكرر انتخابه مرة اخرى، وهؤلاء الاحرار، في عقولهم وافكارهم، هم الذين يبنون العراق وينهضون باقتصاده، ويحكّمون فيه القانون والنظام.

اضف تعليق