إن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية، والسؤال هل إن الكل يصلي ويصوم، ويزكي ويحج؟ وهل في بلادنا لا توجد محرمات ومنكرات؟ وهل يملك المسلمون اليوم تلك العزيمة، والفكر الكافي، والوعي الإسلامي، والإيمان الثابت، والجهاد الصادق الذي كان عليه المسلمون الأوائل.
كل حركة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو غيرها، لا يمكن لها التأثير في الوسط الذي تنشط فيه، إلا إذا كانت تقوم على مبادئ جيدة معتدلة، تضمن حقوق الجميع ولا تعتدي على أحد، لأن بعض النظريات السياسية وبعض الأفكار يمكن أن تكون رد فعل بالغ الضرر، كما حدث في ألمانية النازية، التي استغل هتلر شعورها بالمهانة فزرع فيها الفكر العنصري واستطاع أن ينمّي جميع نزعات الشر في نفوس الألمان على اعتبار أنهم الجنس الآري الأفضل، فوظفهم لغايات وأفكار فردية كان يؤمن بها، لكنها بالنتيجة جلبت الدمار والكوارث على العالم الأوربي وخارجه، ودمّرت الشعب الألماني وألمانيا نفسها، لأنها أفكار بلا مبادئ إنسانية فاضلة، ولا تعبأ إلا بالفكر العدائي وتنميته في النفوس.
في حين أن الأفكار الإنسانية التي وردت في الأديان السماوية والفلسفات المتنورة، ركّزت على أهمية المبادئ الإنسانية التي تتوافق وفطرة البشر وتغذيتها بما يديمها، لكننا اليوم في العصر الراهن نلاحظ سقوط معظم المبادئ في منحدر خطير، قد يؤدي بالبشرية الى مزالق مهلكة نتيجة الصدامات وتضارب المصالح الحيوية وما شابه، الأمر الذي قد يقود الى حروب كونية ربما تقضي على المعمورة ومن يقيم فيها، لو غاب العقل، وغابت الأفكار والمبادئ التي تحد من خطر الضعف المبدئي للإنسانية، وثم شيء من المهم أن نذكره هنا يستند إلى علم النفس، يركد على أن كل فكر لا يتسق ولا يلتقي مع الفطرة الإنسانية سيكون مصيره الموت الحتمي.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم (من أسباب ضعف المسلمين):
(لقد رأى العالم كيف تموت المبادئ غير الصحيحة والتي تخالف فطرة الإنسان، فلم تنتشر إلا في ظروف خاصة يحكمها الجهل حتى إذا ما وعت الشعوب ولو بعد مضي سنوات أو قرون نبذوها وراء ظهورهم).
إذا كل فكر جيد تنظمه مبادئ إنسانية حكيمة معتدلة، فإنه سيدوم ويرتقي ويستمر ويؤثر في الآخرين وفي العقول، أياً كانت العوائق والعقبات التي تقف حياله، وهذا ما يؤكده المعنيون الاجتماعيون والأخلاقيون في هذا الصدد، ولكن مع ذلك لا نبالغ إذا قلنا وتخوفنا من طغيان المادية وتهميش المبادئ الإنسانية، وهذا الخوف لم يأت اعتباطا، ولم يعلن المصلحون تخوفهم جزافا، بل إن الإنسانية تقف في مفترق طرق، بين المبدئي والمادي وهو منزلق أخلاقي ومصيري خطير، بسبب تزايد التناقضات والصراعات على الموارد وحماية المصالح بالقوة، بعيدا عن ركائز ومبادئ العدل، واعتماد المواثيق والقوانين التي ينتظم تحتها الوجود البشري اجمع بما يتناغم مع الفطرة البشرية الرافضة لكل ما يتناقض معها.
إفرازات الأفكار المدعومة بالتطرف
لكننا من المهم أن نفهم بأن الأفكار المتخلفة والمدعومة بالتطرف لا تنمو في الأوساط الواعية، لذا فإن انتشار الحالات والظواهر السلبية، يتم في الأوساط التي يكتنفها الجهل والتخلف والجوع، وهذه البيئة الخطيرة تتولد في ظل الاستبداد والقمع الذي تنتجه الحكومات المتجبرة والحكام الطغاة، لهذا تبدو الحاجة للفكر الوضاء كبيرة جدا، لأن غياب الفكر الذي يتسق مع فطرة الإنسان يشكل فراغا نفسيا وفكريا وماديا هائلا بين الناس، ويضطرهم الى ملء هذا الفراغ بالخرافات والظواهر الفكرية المتخلفة والشعوذة، لهذا يدعو العلماء والمصلحون ورجال الفكر القويم، الى أهمية ملء الفراغ الفكري بالمبادئ الإنسانية الراسخة، التي تقترب من ميول الإنسان الفطرية، حتى تكون النتائج سليمة، أما إذا كانت الأفكار بلا مبادئ فهذا سوف يساعد على انزلاق الإنسانية في منحدرات مخيفة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:
(إن الغرب المسيحي رفض المسيحية واستبدلها بالعلمانية والمادية، وذلك لأن الإنجيل المحرف لا يملك من القدرة والشمولية ما يستوعب الحياة في كافة مراحلها، حيث لم يبق منه سوى بعض الوصايا وقد بدلوها أيضاً ولم يعملوا بها).
ولكن متى يمكن أن ينحرف الفكر ولماذا، سبق أن أعطينا تبريرا مفاده الجهل والتطرف وإقصاء الآخرين وأفكارهم، كل هذا صحيح ومثبت، فهذه العوامل تساعد بالفعل على انحراف الفكر وضياع المبادئ التي تحكم تفكير البشر وسلوكهم، ولكن لابد لنا أن نبحث هذه المشكلة الكأداء من جذورها، ففي العصر الضاج بالعلوم والتطور الهائل، من الغرابة بمكان أن يبقى الإنسان متخلفا غير محصّن بالوعي الكافي، ولكن هذا الجهل وقلة الوعي يتغلغل بين الكثير من الدول الإسلامية، والسؤال هنا لماذا هذا التخلف عن الركب العالمي، وعدم القدرة على مواكبة ما يجري في العصر من تطور هائل؟.
إذاً هناك أسباب تقف وراء التخلف وضعف الوعي أو انتفائه بصورة كلّية، إنها ببساطة الأنظمة الفاشلة التي تغتصب السلطة وتتحكم بها من دون تحصيل شرعية الحكم من الشعب، لذلك لابد أننا نلاحظ ما يعانيه المسلمون في عموم الدول ذات الأنظمة القمعية، من تشرذم وتشتت وضياع في الهوية الإسلامية المتفردة، حيث ينتشر الجهل وتنتهك حقوق المسلمين، ويتم سرقة ثرواتهم واموالهم، وهم يعانون من قلة التعليم والوعي، مع غياب شبه تام لممارسة الحقوق المدنية، والسبب دائما موت المبادئ الانسانية وتنمّر الطغاة على شعوبهم من المسلمين.
النتائج التخريبية للأنظمة القمعية
من هنا ينبّه الإمام الشيرازي على: (أن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هي نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم، علما أن الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل).
وهكذا فإن أساس المشاكل التي تعصف بالمسلمين هي أنظمة الحكم القمعية، ولو أن المسلمين عملوا بقوانين الإسلام وتعاليمه، حول تنظيم الحياة والحكم، وحماية الحقوق الفردية، وحق الإنسان بالانتخاب والتصويت والمشاركة الفعلية في اختيار القادة السياسيين لإدارة دولهم، لما تعرض المسلمون الى شتى انواع الجهل والمعاناة، والدليل أن الغرب الذي اخذ بقوانين الإسلام، استطاع أن يحقق نجاحا في مجال الحريات، والحد من ظواهر القمع والتجاوز على حقوق المواطنين، وهذا دليل على أن النظام الفردي القمعي لا يمكن أن يصب في صالح أحد بما في ذلك أنظمة القمع نفسها، فهي مهدّدة بالثورة والانقضاض عليها طالما أنها تعتمد القمع والتسلط في حماية السلطة.
يقول الامام الشيرازي: (لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والإتقان في العمل، وما أشبه ذلك).
فالمسلمون يعانون من الجهل والتخلف بسبب أجواء القمع، لذلك تنحرف الأفكار وينتشر التطرف، لهذا ينتقد الإمام الشيرازي حال المسلمين، مقارنا بين ما كان عليه المسلمون في صدر الرسالة الإسلامية، ومزاياهم الكبيرة والعظيمة، وبين ما هم عليه الآن من تراجع ونكوص وضعف في الهمة والإيمان، ويشير إلى أن الإسلام ليس أداء فرائض فقط، وإنما تحويل المبادئ الإسلامية إلى تطبيق عملي في حياة المسلم.
هنا يتساءل الإمام الشيرازي قائلا: (نعم إن المسلمين اليوم يصلّون ويصومون، ويزكون ويحجون، ولكنهم تركوا الكثير من القوانين الإسلامية، والسؤال هل إن الكل يصلي ويصوم، ويزكي ويحج؟ وهل في بلادنا لا توجد محرمات ومنكرات؟ وهل يملك المسلمون اليوم تلك العزيمة، والفكر الكافي، والوعي الإسلامي، والإيمان الثابت، والجهاد الصادق الذي كان عليه المسلمون الأوائل؟!).
اضف تعليق