يتكلم بعض حكام المسلمين حول الديمقراطية والشورى نجدهم يفتحون أبواب السجون لأصحاب الفكر والـرأي، وينصبون المشانق لكل حرّ، والويل لمن فتح فم
لكل نظام سياسي مقومات نجاح يستند إليها، فتمضي به قُدُماً في طريق النجاح والاستقرار، وثمة أسباب معروفة لفشل النظام السياسي في إدارة الدولة، وأهمها عدم إدامة مقومات الحكم الرشيد، ومن أهمها، تطبيق مبدأ الشورى والتزام الحاكم وحكومته به، إذ لا تكون أركان الحكم مكتملة ما لم تكن هنالك شرعية في صنع القرار وضمان مشاركة شعبية واسعة عبر التمثيل، مع كفالة حق الرأي وحماية الفكر وضمان حرية التعبير، فكل هذه العناصر تدخل في إطار بناء الدولة المدنية المستقرة بمؤسساتها واستقلال السلطات واعتماد مبدأ الفصل بينها، ومنع اجتماع السلطات الثلاث، التشريعية، التنفيذية، القضائية، في يد الحاكم الأعلى.
كذلك لا يمكن للحاكم أن يدّعي انتماءَه للإسلام وتطبيقه لقوانين الإسلام إذا لم يكن مبدأ الشورى من بينها بل وفي مقدمتها، فالشورى هي المقوّم الأهم والأول من بين جميع القوانين والتعاليم الإسلامية التي تمنح الحكم صفة الرشاد ومقوماتها، وفي حال عدم تطبيق الحاكم الإسلامي للشورى في إدارة الدولة وصنع القرار، فإن سلطته لا تكتسب الشرعية الكاملة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام):
(لا يكفي للحاكم الإسلامي أن يُطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون تطبيق مبدأ الشورى الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام).
وفي حال استمرار الحاكم الأعلى بتغييب مبدأ الشورى، فإنه سوف يكون سببا في ابتعاد الشعب عنه، ولا تقف الأمور عند هذا الحد، فالشعب عندما يكتشف إهمال الحاكم له في مجال حق الرأي والتصريح وتأشير أخطاء الحكومة، فإن النقمة الشعبية سوف تتفاقم وتنمو وتستمر بالتكاثر، وكلما أوغل الحاكم أكثر في إهمال مبدأ الشورى وسحب البساط من تحت أقدام الشرعية الشعبية، كانت بوادر الثورة أكثر وضوحا وجلاء مع مرور الوقت.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله:
(إنّ الناس عندما يرون الحاكم لا يُطبَّق قانون الإسلام الذي هو الشورى ينفضّون من حوله ثم يثورون عليه حـتى إسقاطه).
وحتى لو كان الحاكم الإسلامي حسن الاستنباط والتطبيق، مع أن هذا الاحتمال يخالف الواقع، إذ لم نجد حاكما إسلاميا يغيَّب الشورى ويناهضها كمبدأ سياسي، وفي نفس الوقت يمتلك حسن إدارة الدولة، بسبب إقصائه المنهج الاستشاري واعتماده الرأي الواحد - رأي الحاكم ومعاونيه-، وقد عرف المسلمون مثل هؤلاء الحكام عبر التاريخ وفي الحاضر أيضا، يدّعون بأنهم إسلاميون وهم بعيدون عن أهم مبادئ الإسلام ألا وهو الشورى.
يقول الإمام الشيرازي:
(هذا إذا افترضنا أنّ الحاكم حسن الاستنباط والتطبيق، وذلك قليل أو يكاد يكون معدوماً، بل الظاهر أنّـه من غير الممكن إن يُحسن الحاكم الاستنباط والتطبيق، من غير الاستشارية في أصل مجيء الحاكم).
الشورى من الأفكار العظيمة
ومن أعظم الانجازات التي قدمّها مبدأ الشورى للمسلمين، أنه قوَّض أركان الطغيان، وأسهم في بناء نظام سياسي نموذجي في حكومتي الرسول الأكرم (ص)، والإمام علي (ع)، فقد استطاع المنهج الديمقراطي أن يبني دولة حامية للحقوق ومجتمعا يتطلع إلى النجاح والاستقرار والنمو يتصدّر المجتمعات الأخرى في أفضلية الحفاظ على الحريات والحقوق المدنية، خصوصا حق الرأي وانتقاد الحاكم وحكومته، في حين أننا نعاني اليوم من تفرّد الحاكم الإسلامي بالسلطة والقرار، معتمدا قمع الرأي المعارض له، مع أن غاية هذا الرأي الإصلاح والتقويم، مع ذلك تعدّ الشورى من أهم المبادئ التي تقوّض الاستبداد وتطيح به.
إذ يؤكد الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
)كانت الشورى من بين الأفكار العظيمة التي جاء بها الإسلام واستطاع بهذه الفكرة أن يُحطّم جدار الاستبداد والطغيان ويعيد للإنسان كرامته المفقودة).
وقد نجحت تجارب المسلمين في إدارة الحكم باعتماد مبدأ الشورى في السياسة وسواها من المجالات الأخرى، فبُنيَت أعظم دولة في التاريخ السياسي البشري، إبان الرسالة النبوية وتحويل المجتمع البدائي في الجزيرة إلى مجتمع متحضّر ينتهج المنهج الاستشاري في إدارة شؤونه حتى في المؤسسات الصغيرة، وكان قائد المسلمين الأعلى الرسول الكريم (ص) أول من يعتمد هذا المبدأ ويرتكز عليه، حيث يشاور الجميع في كل شؤون الدولة والدين والمجتمع، ولم يصادر حرية الرأي المعارض أو يقمعه، كما يحدث اليوم في بعض الدول الإسلامية.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
لقد (بنى الإسلام على ساحل هذه فكرة الشورى أعـظم دولة في التاريخ البشري، حيـث كان رسول الله »صلى الله عليه وآله وسلم« يجمع المسلمين كلهم بلا استثناء ويستشيرهم في أمور بلادهم، والتراث الروائي خير شاهدٍ على ذلك).
الناس بحاجة إلى ملء أذهانهم
ومع شديد الأسف أن حكام المسلمين في الحاضر، لم يستفيدوا من تلك التجارب العظيمة في تطبيق المنهج الاستشاري، مع أن النتائج التي يؤدي إليها هذا النوع من الإهمال ستكون وخيمة، ولكن قصر النظر الذي يصيب بعض الحكام في الدول الإسلامية يقودهم إلى قمع الرأي الآخر حتى لو صدر من مرجع ديني مهم أو مفكر كبير، فالرأي المعارض بالنسبة لهؤلاء الحكام مصدر تهديد لحكمهم، وليس مصدر تصويب، لهذا يتسبب إهمالهم للشورى بخسائر فادحة للشعب والدولة مقابل بقاء هؤلاء الحكام في كراسيهم.
لهذا يحذّر الإمام الشيرازي من:
(إنّ عدم تطبيق الشورى سيجعل الفاصلة بين الحاكم والمحكومين شاسعة وكبيرة، فيأخذ كل طرف بقذف الطرف الآخر، وهنا يبدأ الصراع).
ولأن حرية الرأي لم تكن في يوم ما منهجا كماليا طارئا، بل كانت الحرية عند المسلمين منهج حياة، وكان المعيار الدقيق لنجاح النظام السياسي، هو مبدأ الشورى، فهو بمثابة صمام الأمان الذي يديم العلاقة المتوازنة بين الحاكم من جهة والناس المحكومين من جهة ثانية، حيث كان الإمام علي عليهم السلام يمنح الرأي المعارض حصانة تامة، ولا يمكن أن يتطيّر منه أو يزج بقائله في السجون، فحق الرأي مُصان، كون الشورى هي صمام أمان الدولة والنظام.
يقول الإمام الشيرازي:
(إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنيةـ مما تسمى بالديمقراطية ـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان، وذلك لأنّ الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم، يحتاجون إلى ملء أذهانهم).
وفي حال يُقمع الرأي وأصحابه، كما يحدث اليوم في بعض الدول الإسلامية، فإن هذا الأسلوب البعيد عن مبدأ الشورى لا يمكن أن يخدم الحكم الرشيد، بل يجعله في حالة صراع دائمة مع الشعب، وهذا ليس في صالح الحاكم ولا حكومته، لأن طبيعة الإنسان تجعله في حاجة دائمة للمشاركة في صياغة وإدارة شؤونه المهمة في الحياة.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(كما أنّ الجائع يخرج على مَن أجاعهُ بالإضراب والمظاهرة، حيث ورد -عجبتُ للفقراءِ كيفَ لا يخرجونَ بالسَّيف على الأغنياءِ-، كذلك من لا يُستشار يخرج على من أجاع فكرهُ).
وهكذا يبقى المنهج الاستشاري هو حجر الزاوية في نجاح الأنظمة السياسية بمهامها، ولعل المشكلة الأخطر في هذا الجانب تكمن في أن هناك بعض القادة وبعض الأنظمة تؤكد انتسابها للإسلام واعتمادها لمبدأ الشورى والتزامها به، لكن عندما نأتي الى أفعالها وقراراتها، وما تقوم به على الأرض لا ينطبق مع ما تقول، فمن هذه الأنظمة الإسلامية، من يدّعي تطبيق الشورى لكنه يرفض السماح بالرأي المعارض له، وهذه النقطة وحدها كفيلة بهزّ عروش من يدّعي يقول بالانتساب إلى الإسلام من حكام الحاضر، لكنه لا يلتزم بما وضعه الإسلام من شروط على الحاكم، وأهمها ضمان حرية الرأي المعارض للحاكم وحكومته.
والإمام الشيرازي يؤشّر هذه الحقيقة المؤسفة بقوله:
(في ذات الوقت الذي يتكلم فيه – بعض حكام المسلمين- حول الديمقراطية والشورى نجدهم يفتحون أبواب السجون لأصحاب الفكر والـرأي، وينصبون المشانق لكل حرّ، والويل لمن فتح فمه بكلمة واحدة، ظناً منهم أن السجون والمشانق ستقمع الصوت الحر والإرادة النبيلة).
اضف تعليق