"علي مع الحق والحق مع علي"، ماذا يعني لنا هذا الحديث النبوي الشريف، وهذا الوسام العظيم الذي ميّز الامام علي، عليه السلام، عن سواه؟
المفهوم العام للحديث يشير – فيما يشير اليه من دلالات وحقائق- الى عصمة الامام من الخطأ، كما يشير الى مسألة الولاية والقيادة، ومن ثمّ إلزام الناس طاعته، فهو تجسيد للايمان والعدل والفضيلة وكل قيم الحق، والتمرد عليه يعني مجانبة الحق والركون الى الظلم والعدوان والرذيلة وكل قيم الباطل.
بيد أن هذه الخصوصية الاستثنائية لم تتحول الى وسيلة للوصول الى القمة التي اشار اليها رسول الله، صلى الله عليه، في حديثه المأثور، حتى مع وصول الامام، عليه السلام، الى قمة الحكم (سياسياً)، فلم يجعلها وسيلة لتكريس حكمه وشراء الولاء والتأييد الجماهيري، وإنما سعى لأن تكون هذه الخصوصية سبيلاً لارتقاء وعي الامة وصياغة ثقافتها وفكرها وفق قيم السماء من خلال التمتع بنعمة الحرية بكل اشكالها واتجاهاتها في الحياة؛ سواءً حرية التعبير عن الرأي والانتقاد او حرية العمل او حرية السفر، وغيرها، بما يسهم في بلورة الصورة المتكاملة لنظام سياسي اسلامي، وهذا ما يدعو اليه سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي، من خلال تسليطه الضوء على جانب من سيرة أمير المؤمنين، عليه السلام.
"أبين لكم نماذج من الحريات التي طبقها علي بن أبي طالب، عليه السلام، فهو مفخرة، ولكن؛ كان بين أناس لا يعرفون قدر هذه المفخرة.
استمع احياناً الى الاذاعات المسيحية التي تبث باللغة العربية، وهم يتحدثون عن شخصية النبي عيسى، عليه السلام، ويثنون عليه، كما نستمع احياناً الى مديح للنبي موسى، عليه السلام، ونحن نكنّ كل الاحترام لهذين النبيين، ولا يجيز لنا الاسلام الإساءة الى أي انسان مؤمن بالله –تعالى- فضلاً عن الاساءة لأحد الانبياء المرسلين من قبل الله، ولكن؛ هل ثمة مقارنة بين هؤلاء الانبياء وبين علي، عليه السلام؟
إن الامام علي، عليه السلام، يُعد مفخرة ليس للمسلمين وحسب، وإنما مفخرة للعالم بأسره، فقد طبق النظام الاسلامي حينما تولّى الحكم، ومن بنود هذا النظام؛ الحرية. بيد أن المشكلة أنه عاش في زمان لا يعرف أهله قدره.
وعندما ندعو الى تطبيق النظام الاسلامي في الحياة، فانما نريد تجسيد نموذج الامام علي، عليه السلام، في مسألة الحرية وغيرها من المفاهيم والقيم السامية التي تجسّدت بأروع صورها آنذاك، وليس كما يتصور البعض من أن الحديث عن الحكم الاسلامي، يعني الاعتقالات والاعدامات، والتضييق على الحريات، بينما العكس هو تماماً، فاذا حكم الإسلام، سيضمن حريات لم يحلم بها البشر، حتى في أرقى المدنيات والبلاد الديمقراطية في العالم، ويعمم الرفاهية والسلام والأمان بما لم يحلم به الاميركيون ولا البريطانيون ولا غيرهم، ويجعل الناس سادّة بما لم يحلم به القادة الكبار في العالم، بل ويكسر القيود المفروضة على البشر، ويعيد لهم كرامتهم.
وثمة نماذج عدّة للحريات التي طبقها علي بن أبي طالب، عليه السلام، وهو أقوى زعيم لأكبر دولة في العالم آنذاك، فقد أطلق الحريات الاسلامية لتكون نموذجاً لنا وللعالم الى الأبد".
حرية الرأي والنقد مع القوة والاقتدار
أن نكتب ونتحدث عن حرية الرأي والعقيدة، وندعو لها في مناسبات عدّة، لهو أمر يسير في واحة التنظير، لاسيما اذا توفرت أجواء من الحرية كالتي نعيشها في العراق وفي بعض البلاد الاخرى، بيد ان الاختبار الحقيقي والمصداق العملي ينكشف عندما يكون المتحدث، ليس في مكتبه أو في القناة الفضائية او مؤسسته الثقافية الوادعة، وإنما في مكتب الوزير او المدير او النائب والمسؤول في الدولة، وأية دولة...؟!
ليست الدول التي تصنعها القوات العسكرية الغازية او السفارات او الدسائس المخابراتية والاعلامية، كالتي ظهرت في السنوات الاخيرة، فهذه لا ترى ضيراً من منح الحريات الفردية والعامة التي تكسبها المزيد من المصداقية والشرعية السياسية. وأنما الدول التي تصنعها الجماهير بتضحياتها ودمائها، فيكون الحاكم حينئذ، مكسواً بالشرعية، واحياناً بالقدسية، ويعد نفسه المنقذ والمحرر، وعلى يديه تجري البركات، ولولاه لما استعاد الشعب كرامته، هنا؛ يكون الاختبار العسير في التعامل مع الرأي الآخر او الفكرة الاخرى.
ولذا نجد سماحة الامام الشيرازي – طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي يهتف ويضغط على الحروف، بأن الامام علي، عليه السلام، "مفخرة"، لانه منح الحريات لافراد الامة حتى تلك التي تقدح بمصداقيته وشرعيته، وإلا ما الذي كان يمنعه من التصدّي لشخص معارض مثل "ابن الكواء" أو يضيّق عليه، ولا يسمح له بالتفوّه بما يريد، ولا نقول بالاعتقال والنفي وغير ذلك؟
يكفينا موقف واحد منه، عليه السلام، مع هذا المعارض، عندما كان يدخل المسجد ويصلّي بمفرده، فيما يعجّ مسجد الكوفة بالمصلين خلف أمير المؤمنين، في إشارة منه الى تشكيكه بعدالة الإمام، فجاء أصحابه اليه وقالوا له: لماذا تسمح لهذا الرجل بالصلاة لوحده في المسجد ويتسبب في شقّ وحدة المسلمين – مضمون الرواية بتصرف- فأجاب بآيتين من سورة العلق: {أرأيت الذي ينهى* عبداً اذا صلّى}، فهذا الذي يمارس التشكيك والتجديف وحتى التكفير بأقسى صوره، يؤدي صلاته المفروضة أمام القبلة، لذا فهو مصان ومحفوظ على سلامته في القانون الاسلامي، وعليه؛ فان حرية التعبير والانتقاد لا علاقة لها بنظام الحكم ومن هو على قمة الحكم، وهذا ما يعملنا إياه، أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو الذي لم يأت مثله في قمة نظام حكم عادل مهما طال الزمن، فما بالنا بمن يدّعي العصامية او التضحوية والجهادية وحتى المرجعية الدينية، فان حرية التعبير عن الرأي من حرية الانسان وكرامته التي ضمنها القرآن الكريم في غير آية كريمة.
وفي كتابه "الحرية الاسلامية" يؤكد سماحة الإمام الشيرازي على هذه النقطة الجوهرية بأن "التقديس لا يلغي الحرية، فلا يحق للحاكم مهما كان ان يكبت المعارضة ولا يسجنها، او يفرّق التظاهرات بالرصاص كما هو عادة الحكام في بلاد الاسلام اليوم فان ذلك اضافة الى انه خلاف السيرة وخلاف المنطق والعقل، ويوجب كراهية الناس للحاكم، مما ينتهي الى سقوطه، وأن تسوّد صحفته في التاريخ كما اسودّت صفحات الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن اليهم من الحكم المستبدين".
وهذا تحديداً ما يجعل الامام الشيرازي يوسم حرية في ظل نظام كهذا، بانه النظام النموذجي والفريد الذي يحلم به العالم، ويعجز عن تحقيقه كبار الساسة في الغرب ومفكريهم ومنظريهم، لانها حرية شجاعة يمنحها الحاكم رغم ما يملك من مبررات التكميم او التحجيم او حتى ترحيل المطالب الجماهيرية الى وقت آخر ومناسب، كما يفعل بعض الحكام في العالم، فحرية التعبير عن الرأي لها وقتها المناسب دائماً.
اضف تعليق