هل فعلا ثمة صراع متأجج يدور بين الإنسان والزمن، وإذا سلَّمنا بهذا القول أو الرأي أو الاستنتاج، تُرى ما طبيعة هذا الصراع بين الطرفين، وما هي النتائج التي تتمخض عنه في نهاية المطاف، ثم ما هي الأسلحة التي يمتلكها الزمن كي ينتصر على الإنسان، وهل يمكن أن تكون النتيجة لصالح الإنسان ضد الزمن وكيف؟.
هذه الأسئلة تدور جميعها في مدار واحد، وهو كيفية تعامل الإنسان مع ساعات عمره المحدّدة بعدد الأيام والشهور والسنوات التي يعيشها في هذه الدنيا، وعلى الرغم من رغبة البشر في البقاء الى ما لا نهاية على قيد الحياة، ودخل في صراع مرير مع الزمن لكي يكسب هذه المعركة، إلا أن النتيجة بقيت محسومة لصالح الزمن.
فمهما امتدت السنوات بالإنسان ومهما عظم شأنه وازدادت قوته ونفوذه وأمواله وجاهه، فهو في النهاية صائر الى الموت الحتمي فقد بقي الإنسان مقيدا بعمر واحد له سنواته المحددة، وهذا العمر محسوب على البشر بالدقائق والساعات، لذا عليه أن يستثمر ساعات عمره إلى أقصى حد ممكن في العمل الجيد والمفيد، كونه وسيلته الأهم نحو الرقي الفردي والمجتمعي على المستويين الدنيوي والأخروي.
لذلك ينظر الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الى الزمن كما جاء في كتابه القيّم الموسوم بـ (اغتنام الفرص):
بأنه (مجموعة ساعات تتخللها فرص ثمينة للإنسان، فالذكي من اغتنمها وعمل فيها فربحها، والشقي من غفل عنها ولم يعمل فيها فخسرها.. فإنها لن تعود أبداً).
وهذه الساعات ستظهر فيها فرص كثيرة تصب في مصلحة البشر، بحيث يمكنها أن تجعل من حياته نموذجية، بالإضافة الى أنها تعتقه من عذاب الآخرة، إذا كانت تصطف الى جانب العمل الجيد، وطالما أن قيمة الإنسان تأتي من عمله، في النوع والكمّ، لذا فهو مطالب أن يتعامل مع الزمن على أنه ندّ له، فيسعى لاستثمار كل لحظة من عمره في عمل الخير.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه: (إن الإنسان في هذه الدنيا مرهون بساعات عمره من جهة، ومرهون بالزمن المحيط به من جهة أخرى، فلكل منهما قيمة لا تقدر بشيء؛ لأن الإنسان إنما يقيّم بعمله).
كيف يضيّع الإنسان جزءاً من وجوده؟
لا يوجد كائن عاقل يسعى لتضييع وجوده، ولكن حين يُهزَم الإنسان بقوة الغرائز ويبقى لاهيا ساهيا في ساعات العمر، فإنه بذلك يدمّر وجوده الآني بيديه، ولعل النجاح الذي حققته الأمم والشعوب الأخرى على الأصعدة كافة، يرجع بالدرجة الأولى الى إعطاء الزمن قيمته التي يستحقها بالفعل، وهذا يؤدي بدوره الى الاستثمار الأمثل للفرص التي تلوح في الفضاء الزمني لعمر الإنسان، أو تلك التي يخلقها بنفسه.
لذلك أمر بديهي أن النجاح المزدوج الدنيوي الأخروي مرهون بقضية الاستثمار الأحسن للفرص، وهذا يعني الاستغلال الأمثل لساعات العمر، وهو ما يحث عليه الفكر الإنساني السليم في جميع الأفكار الفلسفية أو الاجتماعية أو سواها، بالإضافة إلى التعاليم السماوية المقدسة التي نزلت في كتب الله، وأولها تركيزا وتأكيدا على أهمية إصلاح الإنسان ونجاحه في العمل الصالح، هو القرآن الكريم، لذا لابد أن يستثمر الإنسان حياته المحددة بزمن محدد في الإنتاج السليم على المستويات والمجالات كافة، وبعكسه فإن إهدار الفرص تمثل إهداراً لعمر البشر هباء، وضياعا لجهوده وقدراته الكبيرة، فيخسر دنياه والدار الأخرى معا.
لذا يقول الإمام الشيرازي عن هدر الزمن بلا طائل:
(فالساعات التي يضيّعها الإنسان هنا وهناك، بلا استثمار ولا استغلال، فإنه إنما يضيع بها جزءً من وجوده، ويخسر عبرها مقداراً من أيام عمره). وبهذا فإن كل ساعة تذهب هدرا من الإنسان، بعيد عن استثمارها في ما هو أحسن، فإنها تشكل خسارة للبشر، خصوصا إذا بقي ساهياً عن تسرّب الزمن من بين أصابعه دون أن يشعر به.
وقد لا يتنبّه البشر لسرعة فقدان الزمن، خصوصا إذا كان السبب هو اللهو الفارغ، وعلى العكس من ذلك، فإن الزمن يكون مجديا وملموسا ومحترَماً عندما نستغله في البناء، وطالما أن الانسان على قيد الحياة فإن ساعات عمره تحترق باستمرار، فيبقى عمرهُ في تنازل مستمر، كما يقول الامام علي عليه السلام في كتاب غرر الحكم ودرر الكلم ص159 ق1 ب6 ف5 ح3042: (الساعات تنهب الأعمار)، فما أوضحه وأدقّهُ من تعبير.
أما من يبذر الوقت يميناً وشمالا دون حساب، فإنه سيكون الخاسر في كل الأحوال، لذلك من الواضح أن الانسان مطالب باستغلال العمر بالصورة التي تليق بمنحه فرصة الحياة، وذلك من خلال تحويل الزمن الى منتج فكري أو عملي يساعد على تطور الانسان فردا كان أو جماعة.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب:
(لكي يحافظ الإنسان على فرصة عمره يلزم عليه أن يستثمر ساعات العمر، ولحظات الزمن بالعمل الصالح؛ إذ بواسطته سوف يطول عمر الإنسان).
على الإنسان أن يستثمر الزمن
ولكي تكون نتيجة الصراع مع الزمن لصالح البشر، عليه أن يوظف سنوات عمره في الأعمال التي تبني الحياة ولا تدمرها، فالإنسان كلما احترم الزمن، والتزم بالقيم، وسعى لبناء حياته وحياة الآخرين، فإنه سوف ينجح أيما نجاح، وسيغدو عمرهُ واحة جميلة مزروعة بأعمال الخير، لذلك يبدو أن الترابط بين العمل الصالح وطول العمر واضحا لمن يبحث عن الأسباب، فحين يقوم الإنسان بعمل جيد يخدم فيه نفسه والآخرين معا، فإنه سيشعر بحالة من السعادة والابتهاج، كونه قدم شيئا يساعد الناس في حياتهم او قضاء حوائجهم الماسّة.
بعكس من يهدر عمره في أعمال لا طائل من ورائها، لا تفيده ولا تفيد غيره، فيشعر حينذاك بالندم الكبير والحسرة على عدم تعامله مع الزمن باحترام وحرص، ويلاحقه هذا الشعور بالأسف والألم بصورة مستدامة، حتى يتحول الى نوع من الحزن والكآبة والشعور بالسوداوية تهيمن عليه طوال حياته.
من هنا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن الذي ضيع ساعات عمره في اللهو واللعب، فإنه يندم على كل لحظة لم يستثمرها في فعل الخير، ويتعقب ذلك الندم حسرة نفسية وكآبة روحية).
في حالة العكس، عندما يستغل البشر سويعات عمره بما يسعد الآخرين والذات، فإن الأمر سيكون مختلفا بالطبع، لأن نجاح الإنسان مرتبط في الغالب بأفكاره وأعماله، وبالفرص الناجحة التي يستثمرها قبل أن تمضي من دون هدف أو طائل، كما يحدث مع أناس كثر في مجتمعنا، وهكذا تبدو العلاقة تصاعدية بين النجاح وبين احترام الزمن، واستخدامه بطريقة صحيحة، بما يحوّل الصراع بين الإنسان والزمن الى علاقة تعاونية، وكلما احترم البشر سنوات عمره وزمنه واستغلّ الفرص بصورة جيدة، تصاعدت معنوياته بقوة وإصرار.
لذلك يقول الإمام الشيرازي حول احترام الزمن: (إن الذي يقدّر الزمن ويعمد إلى صالح الأعمال، إنما يزيد روحه ومعنوياته كمالاً مضاعفاً).
اضف تعليق