للبيئة أشكال وأنواع مختلفة كلها تترك تأثيرها الواضح على طبيعة شخصية الإنسان، ولو أردنا معرفة هذه الأنواع، فإنها تشمل البيئة الاجتماعية والثقافية ولطبيعية والوراثية وسواها، وكل هذه الأنواع تتحكم بتشكيل الشخصية البشرية التي تتبلور في ضوء ما تتركه هذه التدخلات البيئية على الإنسان، لذا فإن هذا التأثير لا ينحصر بالبيئة الطبيعية وحدها، وإنما تتعدى ذلك الى فروع البيئة الأخرى.
وهذا الاستنتاج يعتمد العلمية المستخلصة من البحوث المهمة في مجال التأثيرات التي تتركها البيئة على الإنسان، كما هو الحال مع التأثير الكبير للبيئة الوراثية على البشر، وطرق التفكير والسلوك وأنماط العيش وما يماثل ذلك، ويُقصد بالوراثة مجموعة الطبائع والصفات الجيدة والضعيفة التي يرثها الابن أو البنت من أبويهما، ويتعلق هذا الأمر في الوضع النفسي والأخلاقي، والسلوكي فيؤثر حتى في الآداب والعادات التي تُكتسّب بالاحتكاك.
عن طبيعة هذا التأثير يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: البيئة):
إن (البيئة الوراثية تؤثر على الولد بالإضافة إلى تأثيرها فـي نفس الأم وأخلاقها وآدابها وأعمالها والتزاماتها وغير ذلك).
ويؤكد الإمام الشيرازي حتى على التأثير الأخلاقي للبيئة الوراثية فيقول: (إن المرأة الجميلة ـ مثلاً إذا كانت غير ملتزمةـ سيكون جمالها وبالاً على زوجها، فكيف سيكون حال أولادها وأسرتها).
وهذا يدل على مدى التأثير البيئي في تشكيل الشخصية، حيث يتدخل شكل الإنسان وتأثيره في سلوكه، ثم خطورة انتقال ذلك الى الأبناء، فإن كان جيدا سوف يُسهم في صنع شخصية متميزة، أما العكس فإن التأثير البيئي هنا سيكون سيّئا ويصنع الشخصية غير السويّة.
أما ما نقصده حول البيئة تحديدا وأثرها على الإنسان، فإن جميع أنواع البيئة لها تأثيرها، فالمكان الذي ينشأ في الفرد، ويمارس فيه حياته بكل تفرعاتها، سوف يطبع تفكيره وسلوكه وحتى بنائه الفسيولوجي بطبيعة المكان الذي يقيم فيه.
إذاً قد يكون التأثير البيئي لصالح الإنسان أو يحدث العكس، ويتعدى ذلك الإنسان الى الكائن الحي بصورة شاملة، حيث يرى الإمام الشيرازي:
أن (البيئـة المحيطة بأي كائن مـن إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية وتشمـل الآثار الطبيعية والكيماويـة والصحراوية والبحرية والجوية والنباتية والاجتماعية).
أنواع التحكّم البيئي بالإنسان
قد يشكل التكاثر البيئي نوعا وكمّا آثارا سيئة في تشكيل الشخصية، فكما سبق، عرفنا أن بيئة المكان تتدخل في مزايا ومساوئ البشر، والشيء نفسه تتركه البيئة الوراثية على الإنسان، كذلك فإن البيئة الاجتماعية لها أثرها الكبير في هذا الجانب، ونعني بالبيئة الاجتماعية المحيط البشري الذي يتحرك فيه الإنسان، بدءاً من المحيط الأصغر وهو المحيط العائلي، صعودا إلى الحواضن العملية الأخرى كالدراسة أو العمل أو التجاور، وتكمن أهمية هذا النوع من البيئة في تدخله بتوجيه رغبات وتطلعات الكائن البشري ومن ثم تشكيل أفكاره، ويؤثر ذلك على الإنسان إيجابا أو بالعكس منذ الطفولة، على سبيل المثال تشكيل البيئة الإيمانية للطفل.
كما نلاحظ في قول الإمام الشيرازي:
إن (البيئة الاجتماعية هي ممـا تشكل شخصية الإنسان، فإذا كانت هذه البيئة إيمانية ينشأ الطفل علـى الإيمان، وإذا كانت بيئة منحرفة ينشأ الطفل نشأة منحرفة).
ومن الأنواع الأخرى للبيئة المؤثرة في الإنسان وربما أهم هذه الأنواع هي البيئة الثقافية، إذ تتعلق بمنظومة المعرفة التي تصل الى الفرد خلال حياته، ويبدأ هذا الدور منذ مرحلة تشكل الجنين في رحم أمه، من هنا تكمن الأهمية القصوى لنوع الثقافة التي يحصل عليها البشر، ومدى ونوع تأثيرها في عموم حياته العملية والفكرية، فالإنسان الذي يكتسب أو يُمنَح ثقافة عالية، ستظهر تأثيرات ذلك بقوة في شخصيته، وعلى العكس في حالة فقدان الثقافة قد يبقى جاهلا وذا شخصية مهزوزة بسبب ضعفه الثقافي والمعرفي.
عن التأثير الكبير للبيئة الثقافية يقول سماحة الإمام الشيرازي:
تؤثر (البيئة الثقافية في تنشئة الولد، وقد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد، ونقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعُرف والعادة).
ولا يتوقف التنوع البيئي وتأثيره عند هذا الحد، فهنالك البيئة الاقتصادية وأثر المباشر على صنع شخصية البشر، حيث يبرز ودورها الكبير في بناء الشخصية الرصينة، ونعني بالاقتصاد مدى قدرة العائلة على توفير الحياة الأفضل لأبنائها، أو الحكومات لشعوبها، وتوفير مستلزمات التعليم والعناية بالمواهب، وطبيعة المأكل والملبس والعيش بصورة عامة، فالطفل عادة ما يتأثر بحالات القصور المادي، ولعل الفقر والعوز من أخطر الآفات الاقتصادية التي تشترك في تدمير حياة الفرد والجماعة معاً، وتدفع بهم نحو الانحراف أو المرض العضوي والنفسي.
التأثير العضوي والنفسي للبيئة
لذلك يُسهب الإمام الشيرازي في إلقاء الضوء على تأثيرات البيئة الاقتصادية فيقول:
إن (للمشكلات الاقتصادية تأثيرها الكبير فـي البعد التربوي للأطفال، وقـد تؤدي إلى تخلّف عقلي وانحراف نفسي يصيب الأطفال، وهم لا ذنب لهم إلاّ أنهم ولدوا في أسرةٍ متهاوية ومنحرفة أخلاقياً وعقيديّاً).
وفي عودة للبيئة الطبيعية وتأثيرها على الفرد، لابد من توضيح الأثر الكبير لهذا النوع من البيئة على البشر، ولا نبالغ إذا قلنا بأن الطبيعية تعد من أهم فروع البيئة، وربما أخطرها وأكثرها تدخلا في حياة الإنسان شكلا وجوهرا، فقد لا يظن احدنا أن درجة الحرارة يمكن أن تؤثر في طريقة تصرف الإنسان ونوعية تفكيره، وقد نستبعد تدخل طبيعة الطقس في نجاح الإنسان أو فشله في تحقيق أهدافه وطموحاته، بالفعل قد لا يظن البشر أن الحرارة والبرودة لها تأثير كبير في نوعية تفكيره وسلوكه، وقد لا يعبأ بموجات الغبار التي تترك تأثيرا غير مباشر على كيفية تصرّف الإنسان ومدى تحملّه للمشقة والمصاعب.
في حين أن العلماء المختصين أثبتوا بما لا يقبل الشك، بأن بيئة المكان تتدخل في صنع شخصية الإنسان بدرجة كبيرة قد تقارب تدخّل وتأثير البيئة الوراثية، إذاً على الإنسان أن يفهم بأن البيئة الطبيعية لها تأثير كبير عليه في تفكيره وسلوكه وصفاته الخاصة بالتحمل والأناة والصبر، وجودة الذكاء، وطريقة التصرف، والحكمة، أو العكس من ذلك، فقد تؤثر البيئة الطبيعية على الإنسان، فتجعل منه كائنا متسرعا أو متهورا، لا يمتلك رصيدا كافيا من الصبر والتأني والحكمة والذكاء في معالجة المشاكل التي قد تقف في طريقه وتحد من تقدمهُ.
من هنا يطالب الإمام الشيرازي جميع الرعاة والمسؤولين بداية من ربّ الأسرة، صعودا الى أعلى مسؤول سياسي أو ديني أو ثقافي في المجتمع، ويحثهم على أهمية معرفة التدخلات البيئية المتنوعة وأثرها على حياة الإنسان، ومن دون الفهم الدقيق لأنواع البيئة ومدى تدخلها وتأثيرها في حياة الإنسان، فإن مشاكل الأخير العضوية والنفسية سوف تتضاعف ويصبح الأمر خارج السيطرة ولا يمكن معالجة الخلل بعد استفحاله.
وقد قيل إن فهم المشكلة يوفر لك نصف العلاج، من هنا يطالب الإمام الشيررازي بزيادة المعرفة الفرجية والجماعية بأنواع البيئة ومدى تأثيرها على الإنسان، من أجل وضع الخطوات اللازمة والصحيحة في التصدي للأمراض البيئية المختلفة، وصولا الى حياة أفضل للفرد والجماعة، فكلما كانت البيئة الشاملة مفهومة من البشر كلما كان أكثر قدرة على التعامل معها في حالتيّ الاستفادة منها أو تجنّب مخاطرها.
اضف تعليق