مضت حوالي اربعة عقود على آخر ثورة جماهيرية في العراق، بقيادة المرجعية الدينية، بمعنى أكثر من جيل، خاض تجربة المواجهة والتغيير تحت راية علماء الدين، وحقق نجاحاً مشهوداً إعادة اللحمة بين القيادة العلمائية والقاعدة الجماهيرية، بيد أن هذه الفترة الزمنية الطويلة لم تكن في صالح التجربة، لان تخللتها احداث و ظهور تيارات فكرية من الخارج، ألقت بظلالها على مجمل الحالة الاسلامية في العراق.
ومن أهم ما افرزته تلك السنين، ظهور قوتين متعاظمتين تنافست بشكل محموم على الهيمنة والنفوذ ثم التسيّد؛ الاولى: قوة العسكر، والثانية: قوة الاحزاب. والاثنين، إنما عقدت نطفتهما في الخارج، وليس في رحم المجتمع العراقي، وقد ساعدت عوامل عديدة على نموهما واتساع نفوذهما في الاوساط الاجتماعية والسياسية، الامر جعلهما يتركان بصمات واضحة على الاحداث. فالضباط المتخرجون من المدرسة العثمانية سابقاً والبريطانية لاحقاً، وايضاً الاحزاب السياسية، وظفوا قواهم لعمل مؤسسي منظم، تمكنوا من خلاله صنع الاحداث والسيطرة على مقاليد الامور. فكانت السهولة في سيطرة الضباط على المقار الحكومية، كما كان يسيراً على تلكم الاحزاب التواجد بين فئات المجتمع، حتى الفئة الأمية والقليلة الثقافة منها.
هنا تحديداً كانت النقطة التي انطلق منها سماحة المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- لإعادة روح الاسلام الى الساحة، فكانت المهمة أشبه بالمستحيلة، فهو في الوقت الذي يرى أن عليه مواجهة التيارات الفكرية الوافدة وفضح زيف ادعاءاتها وشعاراتها، فانه يرى الواجب ايضاً، صياغة البديل الأكمل والأفضل للمجتمع، وقبل ذلك بلورة رؤية متكاملة للمشروع الاسلامي القادم. وهذا كله لا يتم إلا من خلال المنهج الصحيح، وهو العمل المؤسسي والمنظم.
وفي عام 1960، حيث شيّع أهالي كربلاء المقدسة، المرجع الديني والأب الكبير، السيد ميرزا مهدي الشيرازي – قدس سره-، وبفقدانه، فقدت الساحة الاسلامية، حامل لواء المواجهة والتصدي للانحراف والتضليل في العراق بأسره، الامر حمّل المسؤولية التاريخية والحضارية على عاتق النجل الأكبر لأن يواصل المسيرة، ورغم انه لم يكن حينها قد تجاوز الثلاثة والثلاثين من العمر، فقد نهض بأعباء المسؤولية، قائداً ومؤسساً ومنظراً، فانطلق يستنهض في ابناء المجتمع والامة جمعاء روح الاسلام وضرورة العودة الى القيم والمبادئ والتعاليم السامية، فبدأ بإلقاء المحاضرات ذات المحتوى الفكري والثقافي في اماكن مختلفة بكربلاء المقدسة، الهدف منها تهيئة الارضية واعداد الاجواء للمرحلة القادمة وهي تشييد المؤسسات التي تأخذ على عاتقها النشر والتثقيف والبناء الفكري والانساني. وقد جاء في كتاب "في رحاب الامام الشيرازي" انه كان يلقي ثلاث محاضرات في الاسبوع، إحداها لعموم المجتمع، والاخرى لطلبة العلوم الدينية، والثالثة لطلبة الجامعات العراقية خلال زيارتهم مرقد الامام الحسين، عليه السلام، ليلة الجمعة.
ثم انطلق سماحته الى مساجد وحسينيات المدينة، وعمل على ترميم بعضها وتشييد أخرى، وبعد ان يقيم صلاة الجماعة فيها، يعين إماماً للجماعة بشكل دائم. وأوصى بأن تكون هذه المساجد مركزاً لانبثاق هيئات ولجان لتوعية الجيل الصاعد من الشباب، ومن هذه المساجد تحديداً ولدت الحركة المرجعية التي تحولت فيما بعد الى نشاط سياسي معارض للنظام في كربلاء المقدسة ثم في عموم العراق، ثم انتشرت في كل انحاء العالم.
وعلى صعيد العلم والمعرفة، فقد أسس سماحته ولأول مرة في التاريخ العراقي الحديث، مدرسة خاصة تتدمج المنهج الحكومي مع المنهج الاسلامي، واسماها "مدرسة الامام الصادق". وكرر التجربة في تأسيس مدارس حفاظ القرآن الكريم، وهي ست مدارس، ثلاثة للبنين وثلاث للبنات. وجرت مساعي وجهود حثيثة لاستحصال الترخيص الرسمي لهذه المدارس حتى تكتسب صفة رسمية وتكون حالها من حال سائر المدارس في الامتيازات والحقوق والسياقات الرسمية، لكن الاقدار حالت دون تحقيق ذلك.
وعكف سماحته على تحريك عجلة التبليغ في الحوزة العلمية، ليجعله يحوم، ليس فقط بين أزقة كربلاء القديمة، وانما في القرى والارياف النائية، لاسيما المناطق التي يسكنها اتباع اهل البيت، عليهم السلام، ممن شملهم النسيان، مثل شيعة بلد وسامراء وغيرها، كل ذلك تم على يد "هيئة التبليغ السيار".
وعلى صعيد الثقافة والفكر، فقد شيد المكتبات والمدارس والمطابع، وأصدر ما لا يقل عن مجلات ثقافية، ابرزها "الاخلاق والآداب" و"صوت المبلغين" و"القرآن يهدي" و"نداء الاسلام"، و"أعلام الشيعة" و"صوت العترة" و"ذكريات المعصومين"، و"مبادئ الاسلام" باللغة الانجليزية، بل أسس اذاعة دينية خاصة بالمدينة بالإمكانات المتوفرة آنذاك، وكانت تبث برامجها لمناطق بين الحرمين الشريفين عبر مكبرات الصوت، لإلقاء التوجيهات الى الزائرين في مواسم الزيارات الضخمة.
ليس هذا وحسب بل توجه سماحته الى تشييد المؤسسات ذات البعد الانساني والحضاري، مثل "مستوصف القرآن الحكيم" و"النادي الاسلامي" و"المدرسة الصناعية" و"لجنة تشغيل العاطلين" و"صندوق القرض الحسن". وغيرها من المؤسسات التي حولت كربلاء المقدسة الى مركز اشعاع فكري وحضاري يقدم صورة مصغرة لمستقبل واعد بالتنمية والتطور، بحيث كان الداخل اليها يلحظ بشكل سريع انه داخل الى دولة مصغرة، كل شيء فيها يجري حسب برنامج معد له سلفاً.
يروى في هذا المجال، ان احد "المسؤولين" في العهد العارفي، جاء الى كربلاء، وما أن دخل احد شوارعها بسيارته، حتى ابهرته مظاهر الزينة والابتهاج في المدينة، فسأل عما اذا كانت ثمة مناسبة "وطنية" او ان المحافظ أوصى بذلك، فكان الجواب: لا هذا ولا ذاك، إنما التزاماً بوصايا مرجع دين في المدينة اسمه "السيد محمد الشيرازي" للاحتفال بذكرى مولد الامام علي، عليه السلام، فغضب "المسؤول"، وأمر بإنزال جميع مظاهر الزينة من الجدران والاعمدة في الشوارع، وقال: "انه اليوم يقود الناس لمظاهر الفرح، وغداً سيقودهم الى تغيير الحكم في بغداد..."!
ان الحديث عن المؤسسات كمفهوم ونظرية وتطبيق عملي في مسيرة حياة المرجع والامام الراحل، لهو حديث طويل وذو شجون –حقاً- فهي بقدر فوائدها الجمّة وتأثيرها العميق والكبير في الحياة، كان لها ثمناً باهضاً جداً، فقد بذل سماحته كل ما يملك لإنجاح هذا المشروع الحضاري، وإن لم يكن هو قد شهد نجاح بعضها، فقد سجلت نجاحات باهرة في غيابه، مثل المؤسسات الثقافية والاعلامية والتعليمية والاجتماعية والانسانية، وكلها تحمل بين ثناياها تلك الانفاس والنفحات الايمانية وروح التحدي لتلك الشخصية الفذّة.
ويمكن القول، ان المرجع الراحل بهذه المؤسسات، حقق انتصاراً حقيقياً في الساحة، فيما سجل آخرون ثورات خاصة بهم أزهقوا خلالها أرواح الآلاف والملايين، وضللوا الناس ونشروا الجهل والتسطيح وأسهموا في تخلف البلاد والعباد، ثم راح بعضهم يخفي وجهه خجلاً بين اوساط المجتمع، فيما الآخر عكف على تعديل افكاره وتجميلها لتواكب المرحلة. وبقيت اعمال الامام الشيرازي في اطارها المؤسسي المنظم، حيّة نابضة في وجدان وضمير الناس في العراق وفي كل انحاء العالم.
اضف تعليق