"...كان الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ومن بعده أمير المؤمنين، ثم الامام الحسن المجتبى، عليهم السلام، يتعاملون مع مختلف المستويات والتوجهات في في المجتمع بهدف الاستفادة القصوى من جميع المكونات، وصبّ كل الطاقات والقدرات الموجودة لترسيخ قواعد النظام الاسلامي والحفاظ على كيان الامة.
ولعل من أشد المختلفين مع أهل البيت؛ عليهم السلام؛ المنافقون، هذه المجموعة من الافراد الذين تحولوا بمرور الزمن الى ظاهرة اجتماعية ثم شريحة سياسية لا يستهان بها، مع ذلك، لم تكن بالقوة التي لا يستوعبها المنهج الرسالي، لذا نجد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، تعامل مع أبو سفيان وابنه معاوية والشلّة من رموز بني أمية، كما تعامل أمير المؤمنين، عليه السلام، مع الاشعث الكندي، وايضاً مع شبث بن ربعي، وحتى شمر بن ذي الجوشن، وكذلك فعل ابنه الامام الحسن، عليه السلام، وكان هؤلاء في جسم الدولة الاسلامية، يتولّى بعضهم مناصب في الدولة والجيش.
حصل هذا عندما استخدم أهل البيت، عليهم السلام، سلاح العقل في التعامل مع هذه الشريحة من المجتمع، فاستفادوا من اكبر نسبة ممكنة منهم وما لديهم من قدرات ومهارات تفيد في تعزيز النظام الاسلامي، في حين كان بإمكانهم القضاء على هؤلاء والتخلّص منهم.
لذا ليس بالضرورة أن يكون جميع الناس جيدين مائة بالمائة حتى نفكر بالاستفادة منهم، إنما نبدأ بواحد بالمائة، ثم نأخذ بالتصاعد، وحتى وإن توقفنا على نسبة الخمسين بالمئة، فهذا يُعد مكسباً مهماً، لاننا بعد عملية الاستيعاب سنبدأ بالتخطيط والبرمجة لكيفية الاستفادة الفضلى من هؤلاء.
إن المجتمع يضم الانسان الملتزم دينياً وأخلاقياً، كما يضم المتحلل من الالتزامات، وسيئ الخلق، سواء في السوق أو الدائرة الحكومية وغيرها من ميادين العمل، فهل يُترك هؤلاء لحالهم؟ كلا؛ إنما ينبغي الاستفادة من كل واحد منهم في المكان المناسب الذي يمكن ان يقدم فيه شيئاً مفيداً للمجتمع والامة.
ربما يكون هنالك تاجر غني، ولكن لا يخمّس، أو موظف حكومي غير ملتزم، وهكذا القائمة تطول، فبقاء هؤلاء في مواقعهم يمكنهم إفادتنا في تمشية بعض المعاملات الرسمية – مثلاً- بالنسبة للموظف، وهكذا الآخرين ممن لايلتقون معنا في الفكر والثقافة، فان تحييد موقف هؤلاء يمثل مكسباً مهماً واستراتيجياً لنا".
القدرة الاستيعابية قمة الحكمة والتعقّل
تسير الحياة على خطين متوازيين؛ الحركة والحكمة، فالحركة التي يشترك فيها جميع الكائنات الحيّة، مختصة بها الحيوانات والنباتات، بينما الحكمة اختصّ بها الله –تعالى- للانسان بواسطة العقل؛ هذه النعمة والموهبة العظيمة، حتى نلاحظ أن طفلاً صغيراً قادراً على أن يحدو قافلة طويلة من الجمال، ثم نرى تسخير هذا الانسان للحيوان والنبات والطبيعة لخدمته، ولم ينجح في ذلك إلا بتفعيل جانب الحكمة في نفسه، وتغليبه على سائر الجوانب والنوازع والغرائز.
ولمن يراجع سيرة النبي الأكرم والأئمة من بعده، يلاحظ من أبرز عوامل نجاحهم الاجتماعي في تعاملهم الحكيم مع غير المؤمنين وغير الموالين لهم، بل وحتى مع أعدائهم، ولأنهم حكّموا العقل واتخذه سلاحاً، كما جاء في حديث سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، لم يستخدموا سلاح العنف، فقد واجهوا استفهامات المقربين، ولماذا لم يؤدب هذا؟ ولم يقتل ذاك، ولماذا يبذل الامام الحسين، عليه السلام، الماء لألف فارس، وبهذا العدد الكبير جداً، وهو مقبل على معركة بعد يوم أو يومين فقط، والماء في مثل ظروف كهذه، يمثل "قوة لوجستية" وحياتية في آن؟
إن عجز البعض عن امتلاك الحكمة والتعقّل في العلاقات الاجتماعية، يعود الى النظرة السطحية للظواهر الانسانية والتوقف عندها ثم خوض الجدال والنقاش حولها، لتتحول الى جوهر المشكلة، بينما الحقيقة؛ أن النفاق والازدواجية وحب المال والجاه وغيرها، تمثل نوازع نفسية تكمن في جميع افراد البشر، وصدق المتنبي فيما قاله:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلمُ
وهذا ما يذهب اليه سماحة الامام الشيرازي بضرورة انتهاج الاستيعاب وتوظيف القدرات والامكانات المتاحة لصهرها ثم صبها في مصلحة الامة، وهذا من شأنه توفير جهد كبير في مواجهة الآثار المترتبة من وجود بعض التصرفات والسلوكيات، فوجود ذوي الحالات النفسية والاخلاقية غير السويّة وسط المجتمع وبين أوساط الهيئات الحسينية والمحافل القرآنية والمؤسسات الثقافية سيترك أثره – بشكل او بآخر- على نفوس هؤلاء مع احتمال كبير لإعادة النظر في منهجهم وطريقة تفكيرهم في الحياة، كما حصل مع الحر الرياحي، ومن قبل زهير ابن القين في واقعة كربلاء.
هذا الطموح الكبير والتطلّع البعيد في البناء الاجتماعي، ربما لا يتحقق بما هو مأمول، بيد أن القدرة الاستيعابية من شأنها تحييد الموقف او عدم افساح المجال امام العدو الخارجي للاستفادة من هذه الثغرة في جسد الامة والمجتمع.
ان الإيغال في النزاعات والخلافات الجانبية على كلمة معينة أو موقف أو عمل معين، يخلق لدينا محاور متعددة، بل ويفتح جبهات متصارعة بين ابناء المذهب الواحد وبين ابناء البلد الواحد، وهو طالما حذر منه سماحة الامام الشيرازي في عديد مؤلفاته واحاديثه بضرورة غلق سد الطرق أمام التوغل الاجنبي، بمختلف اشكاله، وفتح الطرق أمام تقدم الامة بواسطة قدرات وامكانات ابنائها، وإعطاء الأهمية للبعد الاستراتيجي على بعض الخلافات في وجهات النظر والرؤى التي يمكن تسويتها بالعقل والحكمة والموعظة الحسنة.
اضف تعليق