q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

المنبر الناجح يقدم خطيباً صديقاً للمستمعين

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-

"...من الامور التي يفترض على خطيب المنبر اللالتفات اليها؛ أن يقيس الموازين خلال طرحه الروايات والآيات القرآنية، حتى وإن كانت الرواية منقولة من كتاب "الكافي" المعتمد لدينا، بيد أن في الرواية؛ عامٌ وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومبين، وواضح وغير واضح، وكذلك الحال في القرآن الكريم، فهل من الصحيح ان نقرأ الآية الكريمة: {ومن يضلل الله فما له من هاد}، بمعنى أن يقول الخطيب من فوق المنبر: إن الله يُضل الناس؟!

إن ذكر الروايات الشريفة والآيات القرآنية لا يجب ان يكون وفق معيار الوجود الواقعي، ولذا فان القرآن بحاجة الى تفسير والى تأويل والى شرح، وكذلك الروايات، وحتى الروايات الموجودة في "الكافي".

حصل أن الامام الصادق، عليه السلام، كان جالساً ذات يوم في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وآله، ويجيب على أسئلة اصحابه، وكان في مجلسه عدد من الفضلاء من اصحاب الامام، مثل محمد بن مسلم، و زرارة، فأشارة أحدهم الى الآخر، بأن الامام الصادق "أعطاه من جراب النورة..."، بمعنى ان الامام اعطى السائل من "النورة" وليس من الواقع، وهذا مصطلح كان معروفاً لديهم، لان الامام كان يتكلم حسب عقل واستيعاب الرجل، وفي الحديث النبوي الشريف: "نحن معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم"، وهذه مسألة معمول بها في كل زمان ومكان، حتى الحكيم والفيلسوف يجيب الناس على قدر عقولهم، وهذا معنى البلاغة، بأن تبلغ موضوعك الى ذهن السامع، "جمال الكلام" يسمى الفصاحة، والمحسنات اللفظية تسمى "البديع"، وهذه من العلوم المودعة في كتاب "المطول".

وإذن؛ فمن الحكمة مراعاة الظروف الزمنية والمكانية في طرح الموضوعات، وهنا يكمن دور الفقهاء، فهم يجمعون الروايات، ويرون فيها العام والخاص، والمجمل، والمبين، والمطلق والمقيد، والمفهوم والمنطوق، والتأويل، والتفسير، وما جاء في ظل التقية، والروايات التي صدرت لاجل بيان الواقع، وما أشبه ذلك، ثم يجمعونها ويستخلصون منها الزبدة.

كذلك الحال بالنسبة للمنبر، فعلى الخطيب ان يكون مثل البناء، يستخلص من المواد الانشائية مثل؛ الجصّ والطابوق والحديد والخشب، بناءً نافعاً وجميلاً، فما موجود من رويات وآيات قرآنية وخطب نهج البلاغة، مثلها مثل المواد الانشائية، على الخطيب ان يعرف كيف يستفيد من هذه النصوص ومتى يتناول هذا النصّ، وفي أي موقع يذكر ذاك النصّ، أما ان يفتح كتاب الحديث او التفسير وينقل منه كيفما شاء، بل حتى يودعها في كتاب مؤلفٍ له، فهذا غير صحيح بالمرة، أما السبب وراء هذا التوجه، فهو في الغالب؛ انما يصدر من حالة عدم القبول بتحمّل الصعوبة".

الاستدلال ومصادر المعلومة

آخر جملة في هذا المقطع الصوتي من محاضرة سماحة الامام الشيرازي، تؤشر الى نقطة جوهرية في الخطاب المنبري، فالخطباء الكرام يعدون أنفسهم الاكثر وعياً بمجريات الأمور ويتحملون آلام الناس ويعبرون عن مشاكلهم وطموحاتهم، فيسعون لطرح البدائل ، وفي هذا الطريق يحتاجون الى ما يضفي على هذه البدائل المشروعية بما من شأنه اختصار الطريق الى قلوب المستمعين وعقولهم، فنجد الاكثار من الروايات والوقائع التاريخية التي ربما لا تتطابق مع الواقع بما يخدم الناس والمجتمع بشكل عام، أو تأتي بنتائج عكسية، كما لو أراد بعضهم –مثلاً- تبيين شدة بأس الإمام علي، عليه السلام، في مقارعة الانحراف الذي تتعرض له الامة، فيأتي على ذكر خطبته المشهورة على جموع أهل البصرة بعد انتهاء حرب الجمل بقوله: "يا أشباه الرجال ولا رجال..."! او حتى يأتي على ذكر المقاطع المشحونة عتباً وملامة من الإمام لإصحابه بسبب تخاذلهم في حرب صفين، بما يبعث في نفوس المستمعين الشعور بالحرج الشديد والإحباط وحتى اليأس من احتمال تغيير الواقع الاجتماعي الى الافضل بدءاً من تغيير الافراد ذاتياً.

وإن اراد صنف من الخطباء بعث الأمل في النفوس، فانهم يتناولون سريعاً الروايات التي تتحدث عن معاجز الأئمة خلال مواجهتهم لاعدائهم أو الروايات التي تتحدث عن الشفاعة للشيعة يوم القيامة وأنهم من أهل الجنة بلا أدنى شك مهما كانت أعمالهم في الدنيا! وهذا لا يكلف الخطيب كثيراً سوى حفظ الروايات الموجودة في كتب الحديث.

وقد لا نكون بحاجة الى الاستدلال على فكرة اجتماعية او ثقافية او لمعالجة ظاهرة ما، الى التعكّز على احاديث اهل البيت، عليهم السلام، إنما بالامكان معالجتها من نفس واقعنا الذي نعيشه، فاذا نتحدث عن التوبة، لاسيما بالنسبة للشباب، فان هذه الشريحة بحاجة الى حلول من صميم الواقع تمهد لهم الطريق للعودة الى جادة الصواب والتخلّي عن الممارسات الخاطئة، بدلاً من ترغيبهم بالشفاعة الجاهزة يوم القيامة فقط كونهم ينتمون الى التشيّع.

ولعل هذا ما دفع سماحة الامام الشيرازي لأن يضع اصبعه على الجرح بأن يدعو الى المزيد من بذل الجهد بالمطالعة العلمية أولاً؛ ثم مدارسة الواقع ثانياً، حتى تكون المعالجات ناجعة و حقيقية بل وعملية، لاسيما ما يتعلق بأمور حساسة مثل الحثّ على الزواج، فالشاب والشابة يبحثان عن طريق آمن ومشروع يضمن لهما زواجاً ناجحاً وحياة آمنة ومستقرة، وهذا لا يتحقق بتطبيق الزواج الذي كان في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، على الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم، إذ ان تجاهل المتغيرات وتطور الانسان وتطور حاجاته وطريقة تفكيره، يعني نقل المستمع من واقعه الى الماضي، في حين هو في الحاضر ويتطلع الى المستقبل، وهذا التناقض يفضي الى التنفّر ثم التسرّب من المجالس.

المجالس مدارس

لمن يريد أن يعرف أين تكمن آثار المجالس الحسينية في المجتمع، ما عليه إلا أن يجري مسحاً سريعاً لجيل الخمسينات من القرن الماضي، وكيف أن آباؤنا – ومعظمهم كانوا من الأميين- أخذوا ثقافتهم ومعارفهم من المنبر، فظهرت سلوكهم وممارساتهم وحتى طريقة تفكيرهم كما لو أنهم خريجي حوزات دينية او من المطالعين لكتب السيرة والحديث والاخلاق، وربما أكبر مثال على ذلك؛ قدرتهم الفائقة على تربية جيل ما بعدهم على نفس ما اقتبسوه من تعاليم اخلاقية وقيم انسانية، فضلاً عن الاندفاع الذاتي للالتزام بالاحكام الدينية، كل هذا لم يكن لولا نمط الخطاب المنبري في تلك الحقبة التي كانت مصداق الحديث النبوي "نحن معاشر الانبياء نكلم الناس على قدر عقولهم".

ولا نبالغ إن قلنا إن مجالس يكون خطيبها الشيخ هادي الكربلائي او الشيخ عبد الزهراء الكعبي، كانت تمثل مدرسة تربوية متكاملة يتعلم فيها المستمع كيف يعيش مع عائلته ومع اصدقائه وكيف يبني ذاته، بل ويراجع نفسه ويصحح سلوكه و افكاره، وذلك بطريقة يخرج منها المستمع من المجلس وهو يشعر بالارتياح لانه غنم افكاراً وإضاءات جمّة، فاختيار اللغة القريبة الى النفوس والقلوب، والشواهد القريبة الى العقول، ومراعاة المشاعر الانسانية، لها دور في نجاح المنبر بدوره التربوي و التوعوي والتثقيفي.

إن المعلم الناجح، هو ذاك الذي يبعث الشعور لدى التلاميذ الصغار بالحنان والعطف قبل ان يشعرهم بسطوة العلم وضرورة التعلّم والحفظ، والحذر من مغبة نيسان الواجبات وغيرها من اسباب التوتر والتشنج التي تقتل العاطفة وتغيب العقل وتجعل التلميذ مجرد آلة للحفظ خوفاً من العقاب.

وهكذا الخطيب الذي يتحدث عنه سماحة الامام الراحل – طاب ثراه- عليه أن يكون صديقاً وقريباً من المستمعين رغم وجوده في مكان مرتفع (المنبر) وان ما يطرحه من افكار وموضوعات إنما هي من حقهم عليه، كما هي النصيحة الواردة في الحديث الشريف، وليس في الأمر تطاولاً أو إكثاراً في طرح موضوعات ذات ابعاد فكرية وفلسفية وعلمية معقدة.

اضف تعليق