عندما يتعلق الأمر بالتخطيط المستقبلي، يُقال ان الأمم الراسخة غالبا ما تخطط لـ 50 سنة قادمة أو أكثر، وتضع الاحتمالات كافة قيد الحدوث حتى لا تكون هنالك مفاجآت غير محسوبة، كذلك الأمم النابضة بالحياة تكون مسؤولة عن توفير حياة كريمة للأجيال القادمة، فتدخر لهم حصتهم من الموارد الطبيعية، وتحسب حسابهم، على العكس من الحكومات العربية وبعض الحكومات الإسلامية التي لا تفكر بالغد ولا تتحمل مسؤولية مستقبل الولادات البشرية القادمة على الرغم من أننا (أهل الحاضر) مسؤولون أخلاقيا وشرعيا عن الأجيال القادمة من حيث توفير الموارد التي تضمن لهم حياة كريمة.
لذلك فإن الأمم الراقية تحرص على مهمة إعداد الأجيال والتأسيس السليم للبنية الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير قدراتها وطاقاتها عبر مناهج تربوية نظرية وتطبيقية مدروسة مسبقا، تهدف دائما الى تتويج طاقات الإنسان بالعمل البناء، ولذلك من أهم ما ترعاه الأمم المتطورة من أمور هو تطوير المهارات الفكرية والعملية، وربما تركز على الطاقات الفكرية والعلوم الإنسانية أكثر، باعتبارها هي المقود الصحيح الذي يوجّه مسارات الجوانب العملية كافة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (إعداد الأجيال)، حول هذا الموضوع:
(إن الأمم إذا أرادت أن تتقدم وتزدهر وتبلغ أهدافها في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فلابدّ لها أن تهتم بالأجيال القادمة، فتقوم بتربية وتنشئة جيل صحيح قوي، مهيأ لتحمل مسؤلية قيادة الأمة).
هذه التهيئة تشترك في مسؤوليتها أكثر من جهة، فالدولة تقع عليها حصة من تلك المهمة، والأسرة لها حصتها أيضا، والمنظومة التعليمية ينبغي أن تقوم بمهمة الإعداد والتدريب كما يجب، وثمة فرق واضح بين ما يكتسبه الانسان من خبرات صحيحة في السلوك والتفكير، وبين ما يرثه من ابويه واجداده، بمعنى ان الفارق واضح بين المكتسَب والمتوارَث، لهذا ينبغي التفريق بين الجانبين، والاهتمام بجانب الاكتساب الخبروي في ميادين الحياة كافة، فالانسان يفتح عينه ووعيه في المحيط الذي ينشأ ويترعرع فيه، ويتابع ويراقب الآخرين في ذلك المحيط، وهو المحيط العائلي ثم المدرسي ثم العملي، فيبدأ يتعلم من مشاهداته للاخرين وسماعه لهم، هنا يتضح لنا الدور الخطير للجانب التربوي في بناء الشخصية الانسانية، فأما يكون صالحا ومدروسا وينتهي الى نتائج تصب في صالح الفرد والمجتمع، وإما أن يكون جهدا عشوائيا مبعثرا، وهنا تكون النتائج عكسية، فالعلم والتعليم يضمن لنا أجيالا متعلمة ومنتجة.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن ما يحصل عليه الإنسان من أدب وحكمة، وعلم وحلم، إنما هو عبر ما يتعلمه ويتلقاه عن طريق سمعه وبصره وفؤاده؛ وعبر التعليم والتجربة وما أشبه).
الأثر الأسري في البناء المستقبلي
وكما تضطلع المؤسسات الدينية العلمية الثقافية بدورها في إعداد وتهيئة الأرضية المناسبة للقادمين، فإن الأسرة يقع عليها جانبا مهما من هذا الدور، لسبب معروف أن النشأة الأولى تتم في ربوع الأسرة لذلك ينهل الإنسان طبائعه وثقافته وفكره وسلوكه من الأسرة، لهذا فإن دورها يكون في الصدارة، حيث تتوزع مسؤولية الإعداد والبناء بين البيت والمدرسة والمحافل الأخرى كأماكن العمل او الأصدقاء وما شابه، ولكن يبقى الأثر الأسري واضحا وعميقا في بناء الشخصية، كونها تبدأ تتشكل في المحيط الأسري أولا، لهذا غالبا ما يُتخذ الأبوان نموذجا صالحا لأبنائهما وبناتهما، فالطفل الصغير يشعر أن أباه هو أفضل إنسان في العالم وكذلك الحال مع البنت التي ستشعر أن أمها أفضل امرأة في العالم، ولهذا غالبا ما يحاول الأولاد تقليد أبويهما في الأفكار والأعمال وجميع التوجهات والتقاليد والعادات.
لهذا يرى الإمام الشيرازي في هذا المجال:
(أن تربية الأبناء تبدأ من خلال الأسرة، وتستمر في أجواء المجتمع، في المدرسة والسوق والتجمعات الاجتماعية وما أشبه، مما يعلم أن لكل من الأسرة والمجتمع الأثر العميق على المدى القريب والبعيد في تحديد ملامح شخصية الإنسان).
ونظرا لأهمية الدور الأسري فقد ركز العلماء والمصلحون وعلماء التربية والاجتماع على الجانب التربوي الكبير الذي تضطلع به الأسرة في مجال تنشئة وتدريب وتطوير الكائن البشري، لهذا ركّز الإسلام بصورة واضحة وكبيرة، على الجانب التربوي في صياغة وتشكيل الشخصية، لأن النفس تنطوي على تركيبة معقدة جدا، وتحتاج الى المثل والنموذج الواضح الذي تسير في هديه، وتتمثل به في عموم أنشطتها الفكرية والعملية، من هنا جاء التركيز على أهمية التربية الأخلاقية والدينية والفكرية واضحا، بل كبيرا، لأنه يسهم في تحصين البشر من الوقوع في الزلل، لذا جاء البناء السليم لشخصية الإنسان متقدما على سواه، كونه يضمن تهيئة سليمة وإعدادا جيدا للأجيال القادمة، وهذا جزء أساس من مسؤولية الجيل الحاضر لتقديم كل ما يلزم من أجل تسليح القادمين بالخبرات والقدرات والأدوات التي تصنع لهم حياتهم الكريمة.
(إن من أبرز المسائل التي حازت على أهمية خاصة في الدين الإسلامي هي التربية الصحيحة في كل جوانبها والاهتمام بها؛ وذلك لما لـها من أثر عميق في صقل النفس الإنسانية ورفع مستواها المعنوي).
الأجيال القادمة وبناء الحضارة الإنسانية
يركز العلماء في مجال تطوير الإنسان على وجوب توفير الظروف التي تلائم طبيعة البشر، وتناسب هواجسهم وترتقي بآمالهم وطموحاتهم، وتحثهم على الارتقاء المستدام، لذلك لا مناص من توفير المستلزمات الأساسية التي تسهم في بناء الإنسان، لأن عملية البناء هنا لا تختلف عن قانون التطور والنمو الصحيح الذي تخضع له عملية تطوير الكائنات كافة، فالنبات مثلا يحتاج الى ارض خصبة، وطقس مناسب ووفرة في المياه، لتحقيق الإنتاج الأفضل والنمو الأسرع، ولا يختلف الأمر بالنسبة لنمو الإنسان فكرا وعملا، وتربية وأخلاقا ومن ثم سلوكا قويما، فالمعروف أن الثقافة والفكر والمضامين التربوية هي التي تبلور سلوك الإنسان وتتحكم بتصرفاته، فتجعل منه فاعلا متوازنا منتجا ومفيدا في المحيط الذي ينشط فيه.
لهذا يؤكد الإمام الشيرازي على:
(أن تأثير التربية على سلوك الإنسان يشبه إلى حد كبير توفير التربة الصالحة والظروف الملائمة لنمو النبات ورشده، وثمره وينعه، وعليه فالاهتمام بالتربية، يعني توفير مستلزمات التوجه الصحيح، وتهيئة البيئة الصالحة لنشوء الأفراد الصادقين والصالحين).
ومع ذلك يتصدر دور الأب والأم قائمة التنشئة السليمة ومستلزماتها حيث يبقى المحيط الأسري الأول من أهم المؤثرات المباشرة، التي تدخل في البناء التربوي للإنسان، من هنا كانت الأسرة ولا تزال هي العامل الأهم، في عملية البناء الأخلاقي والديني والفكري، كون البشر يترعرع في هذا المحيط فينهل منه سماته وأفكاره وسلوكياته، وهذا ما ينبغي أن يتنبّه له الآباء والأمهات بالنسبة للدور الأسري التربوي، وتدخله الكبير في تشكيل التركيبة الفكرية والنفسية للإنسان، حيث يدخل ذلك بقوة في إعداد الأجيال القادمة لمواجهة الحياة ومصاعبها بعزيمة لا تلين وخبرات علمية عملية مكتملة، تسهم في البناء الحضاري المستقبلي.
لهذا يبقى التركيز على الدور الأسري الأبوي قائما متصدرا الأدوار الأخرى حتى تكون الأجيال القادمة مستعدة للقيام بدورها الحضاري بما يتلاءم وجذورها الوراثية، كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(لا شك أن للأسرة ـ وخاصة الوالدين ـ الأثر البالغ في بناء شخصية الأبناء، وحملهم على العادات الطيبة، والتقاليد الجميلة، والقيم الرفيعة، والاتجاهات الحسنة، التي ينبغي لهم ملازمتها طوال حياتهم، وتطبيقها في سلوكهم الفردي والاجتماعي، كما أن لها ـ بالنتيجة ـ الدور الكبير في بناء المجتمع، وتشييد الحضارة الإنسانية).
اضف تعليق