مضى على رحيل الإمام السيد محمد الشيرازي أكثر من عقد ونصف، واليوم بدأت أفكاره تعطي أكُلُها، فقد وضع الإمام مؤلَّفاً تحت عنوان (إذا قام الإسلام في العراق) عمره عشرات السنين، لكن الأفكار التي دبّجها الإمام في كتابه هذا، صارت بمثابة خريطة عمل لبناء العراق الجديد، فالسطور المهمة لكتاب الإمام الشيرازي (إذا قام الإسلام في العراق) يمكن أن نعدها منهاج عمل لإنقاذ العراق من مأساته وبناء عراق جديد).
في ذلك الوقت كان المفكر الإسلامي الراحل السيد محمد الشيرازي منشغلا بصورة تامة بالعراق، وفي مرحلة كان المطلوب فيها ابتكار خريطة عمل يجري في ضوئها بناء هذا البلد في تشكيلة حضارية معاصرة تجمع بين الأصالة والتحديث، لتبني عراقا حضاريا بنظام سياسي معاصر يحمي مواطنيه ويستجيب لمتطلبات الكرامة وحماية الحقوق، وهذا الاشتراط لن يتجسد في الواقع ما لم يتم تأسيس وتطوير نظام حكم يضع مصلحة الأمة أولوية في العمل الجاد، مقدِّما إياها على مصالحه وعرشه.
وهذا النوع من الأنظمة السياسية هو الأطول عمرا، بل يكاد عمره لا ينتهي، لأن شرعيته متأتية من سلطة الشعب وولائه للنظام الدستوري الشرعي العادل، لهذا لا يتعرض هذا النظام للإقصاء أو الاضمحلال أو الموت.
الإمام الشيرازي قالها قبل عشرات السنين:
إن )الحكم الذي لا يقوم على ولاء الشعب يفقد مقومات البقاء/ المصدر: إذا قام السلام في العراق).
أول شرط يقترحه السيد محمد الشيرازي في خريطة عمل بناء العراق هو وجوب احترام الإنسان وتوفير حاجاته، حدث هذا قبل عشرات السنين كما ذكرنا ذلك، على أن الثروات الطبيعية والموارد البشرية تُسهم أفضل الإسهام في إنجاز شروط العيش بكرامة، كما أن النظام السياسي لابد أن يتسامى مثاليا وواقعيا، مع أولية الحفاظ على كرامة المواطن، فالوطن الذي يصون مواطنيه ويمنحهم العزة والاعتداد العالي بالنفس سيجد الناس في أتم الاستعداد للدفاع عنه والمشاركة في بنائه حضاريا، وهذا الأسلوب في حماية كرامة الإنسان بدأه الرسول الكريم حين قامت دولة الإسلام بقيادته، حيث كسْب الإنسان وحماية حقوقه كان أهم ما أقدم عليه الرسول (ص) لتمتد هذه السياسة المعتبَرة الى الإمام علي، فكسْب الإنسان ومنحه الثقة الاحترام كان لدى القائدين الأعظمين غاية الغايات.
أكد على هذا المنوال الإمام الشيرازي فقال:
(عندما قام الإسلام كان أهم شيء في جذب الناس نحوه هو ما رأوا فيه من المثالية والواقعية واحترام الإنسان وتوفير حاجاته، ولذا لم يحتج الرسول (ص) إلا إلى تعريف مفاهيم الإسلام وتطبيقها عمليا. ولقد كان ذلك هو السر في تقدم الإسلام تقدما هائلاً وسريعاً(.
وقد اقترح مؤلِّف كتاب (إذا قام الإسلام في العراق) خطوات حقوقية عملية أخرى، تمنح العراق سمات المعاصرة والتحضّر، منها ما تصدّر تلك المقترحات، فتم التأكيد على حقوق الأقليات، حتى يبقى الكيان الدستوري للدولة مصانا مرموقا.
وقد جاء في مقدمة كتاب (إذا قام الإسلام في العراق) أن المؤلف بحث في مواضيع متعددة مثل مسألة حقوق الأقليات واحترامها ومثل تحويل الأعمال غير الشريفة إلى أعمال شريفة ومساعدتهم على ذلك ومثل البساطة في الحياة وزهد الحكام وعدم تبذيرهم لأموال الشعب بالإضافة إلى مسائل أخرى تتمخض عن إيجاد بنية قوية للعراق تعتمد على مقومات واقعية تبني للشعب حياة بعيدة عن الاستبداد والحرب والجوع والفقر والتشريد.
وهكذا ترتكز خريطة عمل بناء العراق على مقترحات تمّ وضعها حين تأليف هذا الكتاب قبل عشرات السنين، ركّز فيها المؤلِّف السيد محمد الشيرازي على مثالية وواقعية النظام السياسي، واعتماده المدنية في حماية الحقوق، والتدبّر المستدام في توفير كل ما يحتاجه الإنسان ماديا ومعنويا واعتباريا، فالمواطن يريد الحرية والكرامة والعيش الكريم، في مقابل الامتثال للسلطة والتعامل معها حقوقيا ودستوريا.
لكن ما ترشحَّت عنه معظم الأنظمة السياسة التي حكمت العراق ملكيا وجمهوريا، لم يرتكز الى مقترحات أو خريطة عمل مقابلة لما طرحه السيد الإمام الشيرازي، فالكرام أهدرت والحرية حوصرت، وتم الاعتداء على شخصية الفرد ومسخ الشعب ومقايضة حقوقه المدنية بالرضوخ للسلطة مقابل العيش المشروط بالذل والخنوع، لكن ماذا كانت النتيجة؟؟.
انظر الى صفحات التاريخ القريب فماذا سترى، أنظمة استبدادية وصلت للسلطة بالقوة، فلا تمتلك شرعية الشعب، فدارت بين الأخير وبينها جولات من الصراع الدامي، ذلك أن النظام السياسي الذي يقوم على جماجم المعارضين وسفك الدم سينتهي الى الحضيض، وهذا بالضبط ما حدث لأنظمة الاستبداد التي أراقت دم الأبرياء لتحمي عروشها من الزوال، لكنها احترقت ومضت الى غير رجعة تحتويها مزبلة النسيان، ورزايا التاريخ المؤلم، وما هو ثابت ومؤكَّد أن هذا النوع من الأنظمة ليس أمامها سوى الزوال والفناء.
وهو درس للنظام السياسي الحالي والعاملين في السياسة، إذا تم انتهاك حقوق الشعب وتجاهل العمل بخريطة واضحة المعالم تبني دولة الحقوق المدنية المحمية، فإن النتائج لن تكون في صالح النظام السياسي، ومن الأفضل أن يأخذ قادة اليوم ما طرحه السيد الإمام الشيرازي من مقترحات وخارطة عمل في كتابه (إذا قام الإسلام في العراق) مأخذ الجد والاستفادة حتى يتم تكرار تجارب الأنظمة السياسية الفاشلة، فجميع تلك الأنظمة باتت قيد الزوال ومضت الى مصيرها غير مأسوف عليها، في حين بقي الشعب حيا شامخا مصمما على بناء دولة الحقوق والحريات والواجبات المنصفة.
لسنا بحاجة الى تكرار نسخ الأنظمة المستبدة، فقد جرب العراقيون أنوعا منها وذاقوا الأمرين منها، واليوم يتطلع العراقيون وفق ما دوَّنه السيد الشيرازي في كتابه (إذا قام الإسلام في العراق) الى نظام سياسي معتدل محنك ذكي واعٍ ومدرك لطبيعة المرحلة، وإذا وضع في نصب عينيه مقترحات خريطة العمل التي قدمها الإمام الشيرازي، فإن النتائج سوف تكون مثمرة ومنصفة للطرفين، بعيدا عن الاستبداد وإراقة الدماء.
أكد سماحة السيد الإمام الشيرازي: (إن إراقة الدماء تقود الحكم نحو التحطم والفناء إن لم يكن في القريب ففي البعيد).. هذه الوصية يجب أن يضعها كل سياسي في العراق أمام عينيه ويعمل بها طالما كان يعمل في السياسة، فاليوم يحتاج العراقيون الى خريطة عمل لبناء العراق الجديد وهذا بالضبط ما قدمه الإمام الشيرازي في كتابه (إذا قام الإسلام في العراق) قبل سنوات بعيدة.
اضف تعليق