"من اسباب تأخر المسلمين، شحّة الحراك السياسي في البلاد الاسلامية، علماً أننا نلاحظ أن جميع هذه البلدان تشهد أحداثاً كبيرة ومدوية وذات ابعاد واسعة، بيد أنها لا ترقى الى حيث صنع الحدث والتأثير على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وهذا يدعونا الى التساؤل عن نجاح حراكاً سياسياً من نوع آخر في بلادنا وبشكل سريع وغريب، فالبعثيون في العراق يتمكنوا من الوصول الى قمة السلطة بسهولة، فيما ينجح القوميون في مصر من صنع تيار كبير، والشيوعيون يسيطرون على مقاليد السلطة في افغانستان وفي اليمن.
الاجابة ربما لا تكون صعبة؛ فالذي يمكّن هذه التيارات من شقّ أرض الواقع، ليس عاملاً ذاتياً في نفس هذه التيارات، كأن تكون الكفاءة العلمية او الصفات الاخلاقية ولا حتى الخلفية الفكرية والعقائدية الرصينة، إنما هو موطئ قدم القوى الاستعمارية المتوغلة في كيان بلادنا، فنلاحظ أنها تستخدم هذه الحركات والتيارات في عملية استبدال حاكم مكان آخر، حسب الضرورة، وهذا ما فعله البريطانيون – مثلاً- في العراق و ايران ومصر في القرن الماضي، فيما الشعوب تسمع من خلال جهاز المذياع، عبارة "البيان رقم 1" وهو دلالة على حصول انقلاب عسكري على نظام الحكم القائم تحت شعار "الثورة".
ولذا عندما يُقال عن نجاح ثورة البعثيين في العراق او نجاح ثورة الضباط الاحرار (القوميين) في مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وما شابه ذلك، ليس هو نجاح لثورة حقيقية، إنما نجاح لعملية انقلابية متمخضة من دهاليز المخابرات الاميركية او البريطانية، الهدف منها استبدال عبد مأمور بعبد مأمور آخر فقط، والدليل على ذلك، استمرار نفس النهج السياسي في منظومة الحكم، ما خلا بعض التغييرات السطحية للإيهام بحصول الجديد في النظام السياسي، بينما الحقيقة؛ تغيير الالوان والاشكال لا غير، فربما يكون الحاكم السابق تحت اسم "الملك" ثم يأتي من بعده حاكم تحت اسم "رئيس جمهورية"، او يعتمد هذا على نظام الاقطاع وعلى الطبقة الارستقراطية في الاقتصاد، بينما يختار الحاكم الجديد الاعتماد على الطبقة العاملة والتعكّز على النظام الاشتراكي لخلق نوع من الشرعية السياسية وايجاد موطئ قدم في نفوس الناس.
والدليل الآخر؛ استمرار كبت الحريات ومصادرة الرأي في جميع اشكال الانظمة السياسية تلك، وإلا فان المنهج الليبرالي والعلماني المستورد خصيصاً من الغرب الى بلداننا، هو نفسه لا يطاله أي تغيير، حيث نلاحظ التشجيع على الميوعة والتحلل الخلقي والابقاء على القوانين الاستعمارية المعادية لحقوق الانسان".
نشأت الاحزاب السياسية لأول مرة في الغرب كإحدى افرازات الثورة الصناعية وتطور الانظمة السياسية وايضاً تطور الصراع الطبقي ونشوء طبقة البرجوازية (الطبقة المتوسطة) بين الارستقراطية وبين طبقة الفلاحين والعمال، مما يمكن القول معه؛ أن الاحزاب السياسية في اوربا؛ قلب المنظومة الغربية، كانت تعكس افكار و رؤى لحياة الانسان وتأخذ على عاتقها الدفاع عن الحقوق والحريات في ظل تلكم الافكار، فالاحزاب السياسية هي امتداد لتيار فكري وثقافي في المجتمع، كالليبرالية والماركسية والقومية، ومن أوربا انتشرت التيارات الفكرية الى سائر المنظومة الغربية في العالم، فوصلت اليابان والولايات المتحدة الاميركية.
وإذن؛ فان فكرة الاحزاب السياسية جاءت في الغرب استجابة لحاجة اجتماعية قبل ان تكون سياسية، وكذا أنماط الحكم هناك، جاءت ضمن تسلسل احداث وتطورات اجتماعية واقتصادية أولدت الديمقراطية – مثلاً- بيد أن الملاحظ في بلداننا ظهور الاحزاب السياسية – على الاغلب- استجابة لحاجة سياسية من قوى خارجية لا علاقة للشعوب بها، ولذا سرعان ما استحالت تلكم الاحزاب المدعية للافكار التحررية والتنموية والحداثوية، الى شبح مرعب سلب الامن والاستقرار من هذه الشعوب، وبدلاً من أن تفتح لها ابواب التطور العلمي وآفاق الرخاء الاقتصادي، فتحت امامها ابواب السجون ونصبت أعواد المشانق بتهم ملفقة تختفي خلفها التهمة الحقيقية وهي؛ المعارضة والرفض للنظام الحاكم.
هذا المآل جعل الشعوب تشمئز من مجرد تلفظ اسم "الحزب" او حتى التنظيم، رغم كونه مفهوماً ومنطوقاً، يحمل دلالات ايجابية محببة الى النفوس، فما أن سنحت الفرصة لهذه الشعوب للتحرك نحو التغيير فيما يسمى بـ "الربيع العربي" حتى اعلنت الاكتفاء الذاتي تنظيمياً فنشأ مصطلح "الحِراك" كناية عن الحركة السياسية المطلبية للجماهير، وهذه الخطوة وإن جاءت رداً حاسماً على التجارب الحزبية المدمرة، فهي لم تحقق مطالب الجماهير، كون الساحة ليست فارغة لها، إنما هي مشحونة بفسيفساء غريبة من المصالح المتقاطعة لحكام متسلطين واصحاب رساميل محليين وعالميين وساسة لدول كبرى، مما يجعل التنظيم، أمراً لابد منه لشعب يرنو الى التغيير الحقيقي، ولكن! كيف ينشأ هذا التنظيم الذي يحمل صفات المنقذ؟
بالامكان البحث عن الاجابة في هذا المقطع من المحاضرة الصوتية لسماحة الامام الشيرازي الراحل، عندما يبين سبب نجاح الاحزاب والتيارات العلمانية في الوصول الى قمة السلطة بسهولة، بأنها قادمة من دهاليز المخابرات الغربية ومن المؤسسات البحثية ذات التفكير الاستعماري الشرس، وليست متمخضة من رحم المجتمع والامة، ولذا نجدها غير ذات علاقة بهوية الامة وتاريخها وايضاً تطلعاتها واهدافها، فكيف لها – والحال هكذا- أن تمنح الحقوق والحريات للشعوب؟
فالاحزاب والتنظيمات الناجحة تلك التي تنبعث من صميم الواقع الاجتماعي للأمة وتعبر عن الهموم والهوية والتاريخ لترسم لها المستقبل، وفي كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين" يحدد سماحة الامام الشيرازي بنوداً لنجاح الحركة الاسلامية، في مقدمتها؛ نشر الثقافة وتعميق الوعي بين افراد المجتمع، فقبل المطالبة بالحقوق الاساسية مثل الحرية والعدالة والمساواة، لابد من تحديد دلالات هذه القيم ليعرف الناس كيف يستفيدون من هذه الحرية؟ وما هي السبل الكفيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية فيما بينهم؟
ويشير سماحته الى حقيقة العجز المسكون في كيان معظم الاحزاب والتنظيمات الاسلامية – إن لم نقل جميعها- في مسألة التأثير الحقيقي في الواقع الاجتماعي ثم السياسي، وما نراه اليوم من تراجعات و انكفاءات، إنما هو امتداد للحقبة التي كان يتحدث فيها سماحة الامام الشيرازي، وهي فترة الستينات والسبعينات، بل حتى قبلها، الى درجة تصل أن يوافق الشعب المصري – مثلاً- على استبدال نظام حكم يكون عموده الفقري حركة الأخوان المسلمين، بنظام حكم عموده الفقري المؤسسة العسكرية لتشهد مصر انقلاباً عسكرياً مرة أخرى منذ عقود من الزمن.
وأجد من المفيد هنا الاستشهاد بما قاله خبير و اكاديمي اميركي في حوار مع احدى الفضائيات العراقية حول مستقبل ما بعد الموصل ودور التدخل الخارجي في التحرير وفي قادم الأيام، أوضح بأن المشكلة في العراق تنبع من الداخل وليس من الخارج، فاذا كانت ايران او اميركا موجودتان – كما يقول- فانه بسبب الثغرات الواسعة في العلاقة بين جماهير الشعب وبين الساسة الحاكمين، فكلما تعمقت هذه العلاقة، كلما ابتعد العراق عن التدخلات الخارجية أياً كانت.
اضف تعليق