تميزت الأمم الجيدة باهتمامها الكبير بالمؤسسة الاجتماعية الأصغر، ونعني بها العائلة، بحيث خصصت تلك الأمم الكثير من الخبرات والموارد والخطط كي تنهض بهذه المؤسسة الصغرى وتجعل منها أكثر تميّزا واكتمالا، فمن مجموع العائلات يتكون النسيج المجتمعي، وعندما تكون المساهمة في بناء العائلة مدروسة ومكتملة، فإن النتيجة ستكون بناء مجتمع متميز.
وقد تنبّه لهذا الشرط كثير من علماء الاجتماع وغيرهم ممن يعنيهم هذا الأمر، فالحقيقة التي لا تقبل جدالا آخر أو نتيجة أخرى، تؤكد بأن المجتمع الناجح هو حاصل جمع العائلات الناجحة، والعكس صحيح، ولو أننا دققنا النظر وتفحصنا الأمراض والعقد الاجتماعية التي تفتك بمجتمعنا، فإن السبب الأول كما يؤكد على ذلك من يهمه الأمر من العلماء والمختصين، هو الإهمال الذي تعرّض له الإنسان وانعكس سلبا على كيان العائلة، ومن ثم على المجتمع بأكمله.
ومن أهم العلماء الذين تنبّهوا الى هذا الإهمال وحذروا منه، وأكدوا على مواجهته بصورة علمية عملية، هو الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، فقد أورد في العديد من مؤلَّفاته ومحاضراته المختلفة، تنبيهات عميقة ودعوات متواصلة وصريحة الى أهمية الاهتمام الكبير والنوعي بالمؤسسة الاجتماعية الأصغر (العائلة) ووضع الأسس السليمة لبنائها بطريقة متطورة تنسجم مع التطورات الحاصلة في عصرنا، مع الحفاظ على ثقافتنا وتقاليدنا وعقائدنا.
لذلك درس الإمام الشيرازي العقبات والمشكلات التي تعترض كيان العائلة ووضع سماحته أسس وقدم مقترحات لبناء العائلة الناجحة، وقد كان لطبيعة العلاقة بين الزوج والزوج، قصب السبق في استقرار وتميز أفراد العائلة، ومن ثم المجتمع عموما، وحذّر سماحته من حالات عدم التوافق بين الأزواج لأي سبب كان، لأن ذلك سينعكس سلبا على أعضاء العائلة ولا ينحصر بين الزوجين فقط.
فقد أكد الإمام الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الاجتماع ج2) على بعض السباب التي تعكّر صفو العلاقات بي الزوج والزوجة منها حدوث: (عدم التوافق الجنسي، نفسياً، أو جسدياً، أو عملياً، وموضعاً).
كذلك يؤكد الإمام على دور الاختلاف الديني والاقتصادي والثقافي والأخلاقي بين الزوجين على طبيعة العلاقات العائلية، لهذا حذّر الإمام من هذه الاختلافات لأنها تقوّض الأسس الساندة لاستمرارية الأسرة المتميزة، إذ يقول سماحته حول هذا الجانب:
إن (الاختلافات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتربوية، بين الزوجين تقود الى سوء الروابط بين الزوجين، مما يبدل السعادة إلى الشقاء).
الأسس القويمة لبناء العائلة المتفاعلة
ومن الأسس المهمة لقيام العائلة المتفاعلة، تلك العلاقات القائمة على الاحترام والانسجام بين الزوجين أولا كونهما يشكلان قمة الهرم العائلي ويشرفان على أنشطة الأعضاء تجربة وعمرا، لذلك ينبغي أن تتوافر صفات مهمة لدى الزوج والزوجة، وهي عبارة عن مرتكزات للسلوك القويم الذي ينعكس على حياة الأبناء من الجنسين، وفي حالة ضمور تلك الصفات الجيدة، وثبات قيم وصفات مسيئة محلها، فإن النتائج ستكون وخيمة على هذه المؤسسة الصغرى حيث تكون معرضة للانهيار ما يؤدي بالنتيجة الى ضرر خاص وآخر عام يلحق بعموم المجتمع.
لذلك ينبغي الحذر من الأسباب التي تؤدي الى سوء العلاقات بين الأزواج، لأنها سوف تشمل الجميع ولا تتوقف عند حدود الزوجين فقط.
لهذا حذر الإمام الشيرازي منها قائلا: (هناك أسباب توجب سوء الروابط، مثل عدم المحبة، عدم الوفاء، عدم الرحمة، سوء الأخلاق، شدة الكلام، السباب، الحسد، ترجيح الزوج إحدى زوجاته على الأخريات، الكبر، الغرور، الكذب، سوء الظن).
ومن الملاحظات الدقيقة التي يركز عليها الإمام الشيرازي، أن سماحته يوجّه الزوجة بأدق التفاصيل، وبالكيفية التي ينبغي أن تظهر بها أمام زوجها، وينصح سماحته بالطريقة والأسلوب والمظهر وطبيعة السلوك، ما يعني أن هذه التفاصيل رغم أنها تبدو غير مهمة، لكنها في الحقيقة من الممكن أن تكون سبباب في تدمير المؤسسة العائلية ومن ثم النسيج المجتمعي عموما.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: إن (عدم اعتناء الزوجة بنفسها لزوجها، خصوصاً إذا كانت تعتني بنفسها للضيوف، وعند الخروج من الدار، وعدم الاهتمام بالأكل واللباس والنظافة، مع انتشار الكذب، وسوء الظن) كل هذا يقوض العلاقة الزوجية ويعرض الأسس التي تقوم عليها العلاقات العائلية الى التقوقع والتراجع ومن ثم الضمور الكلي الذي قد ينتهي بالزوجين الى الانفصال، وهو ما يعود على الأبناء بالضرر الأكيد ويقوض الكيان العائلي كله، بسبب انتشار صفات وقيم التعامل المسيء بين الأزواج وتسربه الى الأبناء ومن ثم الى المجتمع.
نقاء المحيط العائلي
لهذا غالبا ما يدعو الإمام الشيرازي في مؤلَّفاته ومحاضراته وحتى في مجالسه ولقاءاته الفردية على أهمية النقاء العائلي، وهذا الشرط لا يمكن تحقيقه ما لم تتبلور العلاقة بين الزوجين على أسس سليمة مستمدة من الضوابط الأخلاقية والتربوية والدينية والثقافية المعتمدة، فهذه الشروط والأسس كفيلة ببث روح السعادة بين أعضاء الأسرة وتؤدي بالنتيجة الى نوع من العلاقات التي تسهم في تصاعد الروح المعنوية ودرجة الانسجام، ومن ثم النجاح التام للأسرة ككل، ما يؤدي الى ضمان مستقبل متميز لأعضاء العائلة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع تحديدا: (إن من أهم الشرائط العائلية، أن يتمكن الزوجان من الحفاظ على نقاء المحيط العائلي، بالنسبة إلى أنفسهما وبالنسبة إلى الأولاد، فإن ذلك يؤمن سعادة العائلة أولاً، وسعادة مستقبل الأولاد ثانياً).
ونظرا لأهمية النقاء العائلي في تعزيز الروابط الأسرية وتحسين العلاقات العائلية ومن ثم الاجتماعية عموما، فإن الإمام الشيرازي يستثمر جميع المناسبات والفرص كي ينشر الأفكار والدوافع التي تسهم في تحقيق أعلى درجة ممكنة من النقاء العائلي بين الزوجين أولا، ومن ثم بين جميع أعضاء الأسرة.
لأن النقاء يؤدي الى نوع من التفاهم والانسجام والتعاون في جميع المجالات العملية والفكرية، ما يؤدي بالنتيجة الى حصانة إضافية تعزز الأسس التي تقوم عليها العلاقات الزوجية بين الزوجين، لتمتد أكثر في تأثيرها الى أهل الزوجين، فالأهل للزوج والزوجة كما أثبتت التجارب لهما دور كبير في تعزيز النقاء العائلي أو العكس، أي عندما تكون العلاقة بين الطرفين باردة أو معقدة بعض الشيء، فإن أجواء عدم الثقة سوف تجعل من علاقات الزوج والزوجة أكثر تذبذبا، ما يقود بالنتيجة الى انهيار الأسس السليمة التي تقوم عليها العلاقة بين أفراد الأسرة عموما.
لهذا يدعو الإمام الشيرازي الى تحسين الروابط الأسرية ويدعو سماحته دائما وفي جميع المناسبات الى أهمية تأسيس الجمعيات الخيرية التي تساعد على تطوير العلاقات الاجتماعية وتساعد النساء حتى المطلقات او الأرامل على تعزيز الروح المتفائلة القادرة على المساهمة الفاعلة في البناء الأسري والمجتمعي عموما.
ومن الدعوات التي وجهها الإمام الشيرازي في هذا الخصوص، دعوته الى: (تأسيس المؤسسات لتحسين الروابط العائلية، كجمعيات خيرية، لها فروع، فرع لتزويج العزاب - حتى المطلقات والأرامل والمطلقين من ماتت زوجته- مثلا: وفرع سد حاجات العائلات، من الحوائج اللازمة). فمثل هذه المؤسسات يمكن أن تسهم بصورة فعالة على تركيز وتعزيز الأسس السليمة التي تقوم عليها العلاقات الزوجية المتميزة.
اضف تعليق