يسعى شخصيات ووجوه المجتمع وعقوله الأكثر حكمة الى محاصرة النزاعات للخروج منها بأقل ما يمكن من الخسائر، يتم ذلك بتداول الأقوال الصحيحة وإقامة قواعد العلاقات المتينة القائمة على العدل والتساوي والتعاون، فضلا عن السعي لنشر الفكر المعتدل، كي تنعكس مثل هذه الأعمال النوعي على تحسين السلوك البشري، فهناك قاعدة معروفة تقول، كلما تحسَّن الفكر تحسن السلوك.
بالإضافة الى أن علم النفس تحقق من الأسباب التي تقف وراء العنف، وأسباب إثارة النزاعات، واكتشف أن القائم بهذه الأفعال مريض نفسيا.
لهذا السبب أكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخر) على:
(أن الجنوح إلى النزاع والاختلاف نوع من أمراض النفس، وانحراف في الذات).
ومن المفارقات المؤسفة حقا، أن صانع العنف بالنتيجة سوف يتلقى نتائج حالات العنف التي يصنعها بنفسه، فهي أولا وأخيرا سوف تعود عليه، لتصيبه في الصميم، حتى قبل أن يضر غيره في أعمال العنف التي تصدر منه بسبب أمراضه النفسية التي تدفع به الى العنف والشدة واتخاذ القمع سبيلا الى تحقيق ما يصبو إليه بدلا من أن يتخذ العنف والتعاون والعدل طريقا الى غاياته التي ينبغي أن تكون مشروعة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب: (إن العنيف في قول أو كتابة أو فعل، إنما يضر نفسه قبل أن يضر الآخرين).
لذلك تم التركيز على أهمية الحد من العنف أو القضاء عليه، خصوصا في التعاليم والمبادئ الإسلامية التي أوجبت ردع العنف بكل أشكاله والجنوح الى السلم مع العمل المستدام على احتواء الأزمات التي تثير الأعمال العنيفة، وقد لمس المسلمون منذ أوائل الرسالة النبوية الفوائد العظمى لكبح العنف فاتخذوا منه طريقا ومنهج حياة قبل غاندي بقرون من الزمن.
لذلك أكد الإمام الشيرازي على أن: (مبدأ اللاعنف هو شعار الإسلام قبل أن يتخذه غاندي شعاراً كما أن من شعار الإسلام السلام، قبل أن يتبناه بعض دول العالم صدقاً أو كذباً).
التلقين والتمرين لإزالة العنف
ونظرا لأهمية ردع العنف، لابد من العمل على إيجاد السبل التي تؤدي الى تحقيق هذا الهدف، فالعنف هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى. وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات مثل تدمير الممتلكات، ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين، كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها، ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد، وجدير بالذكر أن العنف لا يقتصر على العنف البدني فحسب.
أي أن هنالك أنواع عديدة من العنف، منها العنف النفسي، والعنف اللفظي، والعنف الإيحائي، والعنف المدرسي وكذا المدرسي، والعنف ضد الأطفال، والنساء والأسرى، الى غير ذلك، لذلك ينبغي أن تنهض الجهات والدوائر والمؤسسات والشخصيات المعنية بقضية ردع العنف والتقليل من انتشاره، ومن هذا السبل التلقين والإيحاء والتمرين، الذي يتم تقديمه للأفراد والجماعات.
كما يؤكد على ذلك الإمام الراحل في قوله: (لاشك أن الإنسان فيه حالة العنف، لكن يمكن إزالته بالتلقين والإيحاء والتمرين، وعند ذاك تكون ملكة له وطبعاً من طباعه يأتي بكل يسر وعفويّة، كما هو كذلك في سائر الحالات والملكات الرديئة).
وقد يلجأ بعضهم للتخفيف من العنف الى أساليب أخرى منها تقديم الاعتذار لمن يتعرض لأساليب العنف المعرّف، لكن هذه الطريقة لا تمثل علاجا شافيا، ولا تردع العنف، كما أنها لا تقدم الفائدة التامة لمن يعتدي على الآخرين، بمعنى أن من يقترف الأذى بحق الآخرين ويتسبب لهم بنوع من التعنيف والقسوة فإن تقديمه للاعتذار لن يمحو الأثر ولا يسهم في معالجة ما تسبب به من أذى مادي أو معنوي للآخر.
لهذا يؤكد الإمام الراحل على هذه النقطة المهمة في كتابه نفسه فيقول: (لا يخفى أن الاعتذار لا ينفع العنيف، فإنه قد يرفع شدّة الأثر السيئ، لكنه لا يرفع أصل الأثر، ولماذا يرتكب العاقل ما يحتاج إلى الاعتذار؟). لذلك يبقى السؤال الأهم، أن الإنسان العاقل الذي يقوم بارتكاب الفعل العنيف ضد الآخر، فإنه يعرف مسبقا أن الاعتذار لا يمحو الأذى، لذلك كان عليه أن يفكر مسبقا في مسألة استعمال القوة والقسوة ضد الناس الآخرين قبل أن يرتكب العنف ضدهم.
الاختلاف في كل أبعاد الحياة
وغالبا ما يكون الإنسان العنيف متكبرا، فيشعر بالتعالي على الآخرين، ويظهر هذا التعالي في السلوك والأقوال والتفكير وأنواع التصرف حتى في أدق الأمور، حيث يشعر بعض الناس المرضى نفسيا بأنهم أفضل من الآخرين في أمور كثيرة، فيدفعهم هذا الشعور المشخص مرضيا الى التكبر على الناس في الفعل والقول، والمشكلة عندما يكون مثل هذه الأشخاص في السلطة، وتكون مصائر الناس بأيديهم، هنا تبدأ مشكلة الظلم السياسي، وقمع الطغاة.
لا ينحصر هذا النوع من العنف بالحكام، فحتى الأشخاص من ذوي الوظائف الصغيرة، وبعضهم بلا وظائف ولا سلطات ولا صلاحيات، لكنه يحترف العنف في حياته اليومية المعتادة فيكون لفظه نابيا وأخلاقه سيئة وسلوكه مؤذٍ للآخرين، وأمر طبيعي أن المتعالي على الآخرين ينظر الى نفسه بإعجاب وتفاخر، فيستبد في الرأي والفعل وقد يتضخم ذلك الى إلحاق الأذى بالناس.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (ومما يقود الى التأخر الكبر بأن يرى الإنسان نفسه كبيراً، ويترفّع على الآخرين عملاً، فإن هذا يتسبب بانفضاض الناس من حوله. لا يأخذ الإنسان من الآخرين ما يصلحه. والكبر يستلزم كثيراً من الرذائل كالعجب والاستبداد وإهانة الناس بالقول والعمل).
ولهذا يعد التكبر من صفات التأخر وأسبابه، كما هو الحال مع رغبة الإنسان بالعنف، فهناك أناس عنيفون بطبيعتهم، وقد يرتبط العنف بأفكارهم وأقوالهم وحتى سلوكهم، فيذهبون الى صنع المشاكل هنا وهناك، ويستعملون العنف ويثيرون الأزمات في أي محيط يتواجدون فيه، وأينما حل مثل هؤلاء الأشخاص تجد العنف قائما وحاضرا بحضورهم، لذلك من الأفضل أن تكون هناك إجراءات قانونية شديدة وعادلة لضبط العنف، فقد لا يتمكن الردع الذاتي من تحقيق هذا الأمر، وقد يعجز السائد العرفي والأخلاق عن تحقيق هذا الهدف.
لذلك من الأفضل أن يتم ردع العنف بالوسائل والإجراءات المناسبة، قانونية أو عرفية أو دينية أو مجتمعية أو سواها، ومن الأفضل العمل على زيادة أعداد الرافضين للعنف أو الحياديين على الأقل.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله: (من فلسفة التأخر الجنوح إلى النزاع، فإن بعض الناس يميلون إلى المشاكل والاختلاف مع الآخرين في الصغائر والكبائر، وفي كل أبعاد الحياة، خلافاً للبعض الآخر حيث يميلون إلى الائتلاف أو يكونون حيادييّن في كلا الأمرين).
اضف تعليق