ربما يكون الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – طاب ثراه- من قلائل علماء الدين الشيعة أجبر على تحمّل أخطاء اصحابه العاملين في منظومة المشاريع التي أنشأها منذ باكورة نشاطه الثقافي والفكري في عقد الخمسينات، وكلما اتسعت المشاريع في مداها وحجمها وتأثيرها، كلما تعرضت للهفوات والسقطات، وهذا أمر طبيعي، لنأخذ عدداً من السيارات متوقفة في مكان واحد، ما أن تتحرك وتخرج من المراب وتنتشر في الشارع، حتى يحصل الاحتكاك او الاصطدام فيما بينها بشكل او بآخر، وقد جربت هذه الحالة؛ تيارات ثقافية واحزاب سياسية، بيد أن ما حصل بالنسبة للإمام الراحل أن تم استهدافه شخصياً طيلة سنوات حياته بما فعله الآخرون، فكانت الرسالة الغريبة أمامه: إما التبرؤ من ذلك الخطيب او هذا العالم او ذاك الوجيه الاجتماعي او غيرهم، وإما استقبال الاتهامات والإدانات!
رغم الدلائل الشرعية والعقلية على خطأ ما يذهب اليه اصحاب هذا التوجه، فانها لم تزدهم إلا إصراراً على مواصلة حملات التشكيك والتسقيط، فالآية الكريمة التي يحفظها الجميع: {ولا تزرو وزارة وزر أخرى}، ويقول أهل المنطق في تقسيمهم "المفهوم" الى جزئي وكلّي؛ فالمفهوم الجزئي "الذي يمتنع انطباقه على أكثر من مصداق واحد، بينما المفهوم الكلّي، "الذي لا يمتنع انطباقه على اكثر من مصداق"، مثال ذلك؛ اسم شخص، أو اسم مؤسسة، فانها تدل على مفهوم جزئي، بينما "الانسانية" التي طالما عمل من أجلها الامام الراحل فانها تمثل مفهوماً له مصاديق عدّة على أرض الواقع.
الرد بالعمل المؤسساتي
ممن يتصفون بالتقوى في النفس والنقاء في القلب والعفّة في الجوارح، يلتزم بالنصيحة الإلهية: {ادفع باللتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم}، وطالما كان سماحته يردد هذه الآية في أحاديثه، بل ذهب الى اكثر من ذلك، فهو دفع السيئة بالاعمال الكبيرة ذات الابعاد الحضارية والانسانية، هذه الاعمال والمشاريع كانت تزداد يوماً بعد آخر على شكل ابتكارات مذهلة، كلما استمرت تلك الحملات المضادة وزادت من ضغوطها، مما كان يبعث عن الاستغراب والانبهار لكل متابع لسيرة حياة هذا العالم الكبير.
والرسالة الاولى: إن ما يحصل من أخطاء وهفوات هنا وهناك، إنما تصدر من مؤسسات وهيئات عاملة، وليس من شخص واحد، فالخطيب الذي يرتقي المنبر ينتمي الى مؤسسة دينية ضخمة، وهي الحوزة العلمية، والكاتب ينتمي الى مؤسسة ثقافية وهكذا المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، مما يعني ان إلقاء أخطاء هذه المؤسسات على شخص بعينه كونه أسهم في تأسيسها، يعني تكريس الفردية وإلغاء فكرة العمل المؤسساتي عن الساحة بشكل غير مباشر.
إن تأكيد سماحة الامام الشيرازي الراحل على التنظيم والمأسسة في مختلف مجالات العمل، إنما لضمان النسب العالية من النجاح وقبلها تفادي الأخطاء الفنية والمنهجية، وهذا ما يتم من خلال العمل بالشروى فيما بين العاملين، مع استقبال الانتقادات البناءة والملاحظات من أي جهة كانت، فهي تمثل إشارات تصويب وتقويم ولازمة أي عمل يُراد له الاستمرار بنجاح.
ولعل هذا يفسر التزام سماحته طيلة حياته العملية بعدم الردّ على أي حملة مضادة مهما كانت الظروف، حتى ولو بإصدار بيان نفي – مثلاً- او توضيح للرأي العام، مؤكداً أن الرد على الاستفزازات والاتهامات يتسبب في جهد ذهني يحتاجه صاحبه للعمل والابداع والانتاج، وقد أثمر هذا المنهج الأصيل عن مؤسسات ومكتبات ومدارس وحسينيات ومساجد، فضلاً عن المؤلفات، فهي بقيت تضيئ للأجيال فيما ذهبت كل تلك الاتهامات والاستفزازات أدراج الرياح.
يحاربون التنوّع وسنّة الاختلاف
مما يؤسف له حقاً، استمرار هذا النهج في التعامل مع المشاريع والاعمال التي تدار من قبل المرجعية الدينية، فقد مرّ على انطلاق النشاط الرسالي والحضاري لسماحة الامام الشيرازي اكثر من نصف قرن، سعى خلالها تفعيل طاقات وقدرات المجتمع للمشاركة في حركة تغيير وإصلاح شاملة، فكان الكسبة والتجار في الهيئات الحسينية يعملون لإحياء الشعائر في أيامها، وفي سائر الايام يواصلون نشاطهم الاجتماعي والخيري، أما المتعلمون والمثقفون فانهم يديرون المكتبات والمدارس وينشئون المؤسسات الاعلامية وينشطون في العمل السياسي والاقتصادي.
هذه الشرائح المكونة للمجتمع والامة لها خصوصيات في السلوك والعادات والتفكير، فاذا حصل خطأ ما، هل نحمل الجميع مسؤولية هذا الخطأ؟
ثم ماذا يعني أن يجعل البعض كل هذه الشرائح الاجتماعية طوع إرادة شخص واحد؟ إلا يعني هذا انتهاكاً غير مباشر للكرامة الانسانية؟!
لنأخذ الشخص الذي يوزع الشاي في الحسينيات –مثلاً- فاذا صدر منه خطأ ما، ألا يملك من المواصفات الانسانية شيء حتى نتحدث اليه ناصحين بضرورة تدارك الخطأ وإرشاده الى الصواب والمزيد من العمل الناجح؟ وهكذا الحال بالنسبة لطالب الحوزة العلمية او الخطيب او الكاتب او المسؤول في هيئة حسينية وغير ذلك كثير.
وفي إحدى مؤلفاته يشير سماحته – طاب ثراه- الى هذه الاشكالية الذهنية لدى البعض بأن حسبكم سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقد كان حوله المؤمنون، كما كان حوله المنافقون ايضاً، فضلاً عن اصحاب المصالح ومن هم مستوى دانٍ من الوعي والثقافة متمثلين في الاعراب (سكان البادية)، وعندما كانت تصدر أخطاء من كل هذا الخليط غير المتجانس، هل كان على النبي معاقبتهم او فصلهم من الدين الاسلامي؟!
ولذا كان سماحته يؤكد دائماً على ضرورة التواصل والتواصي بين افراد المجتمع الواحد والامة الواحدة لمزيد من التقويم والإصلاح، واحترام سنّة الاختلاف بين البشر، وعدم البحث عن الطرق السهلة للانتقاد وتحميل شخص واحد او اكثر أخطاء الآخرين.
نعم؛ للمؤسسات والمشاريع التي أقامها الامام الشيرازي، طابع خاص يتميز عن سائر المشاريع الموجودة في الساحة، وهذا أمر لا بأس به، فحتى الثورات تعكس منهج قائدها، فهناك الثورات السلمية كما هنالك الثورات المسلحة، وهنالك من فكر في التغيير والإصلاح والبناء الانساني، وقد تميّزت مدرسة الامام الشيرازي بمنهج السلم والانفتاح واحترام الآخر واهتمامها بالبناء الانساني على قاعدة الاخلاق والايمان والقيم الفاضلة ثم العمل لتحقيق الافضل في الحياة.
اضف تعليق