من أكثر العيوب التي واجهتها الاقتصادات الإسلامية والعربية، ظاهرة هدر الثروات وتدمير الموارد والاستخفاف بالمخزون من الموارد والأموال العامة، وهناك نوع من الجهل العام يشترك فيه المسؤول والمواطن يتعلق بكيفية التعامل مع الموارد العامة، فهي في المنظور العلمي تمثل ملكا لجميع أفراد المجتمع ومكوناته من دون استثناء، ولا يحق للسلطة أو الحاكم وحكومته، ولا لأية جهة أو مؤسسة أخرى، الاستيلاء على الثروات أو جزء منها، تحت أية ذريعة أو مبرر، فلا الدين ولا الأعراف ولا القانون ولا القيم تسوّغ أو تسمح بالتطاول على ثروات الأمة!، لذا تعد الثروات خط أحمر، لا يجوز المساس أو التلاعب بها، أو إصدار القرارات السلطوية التي تؤدي الى هدر الثروات وعدم حمايتها.
تتجدد الدعوات على نحو مستمر حول أهمية خضوع الثروات العامة للشعب أو عموم الأمة، لنوع من التنظيم يحافظ بشكل قطعي على الثروات العامل بصورة مستمرة، وهناك من يؤكد على النظام الرقابي ودوره في المحاسبة والتقنين، فيؤدي ذلك الى مجموعة من الإجراءات النظرية والعملية التي تؤدي بالنتيجة الى حماية الثروات من التجاوز، وتساعد على وضع حد لعمليات هدر هذه الأموال بالطرق غير القانونية كالصفقات المشبوهة وغسيل الأموال وتبييضها، خاصة تلك التي تحدث من الجهات الحكومية، أو الجهات التي تمتلك قوة كبيرة، تدفعها للتجاوز على ثروات الشعب، وعندما تتعرض ثروات الشعب والأمة للنهب، فسوف تتبع ذلك تداعيات خطيرة، منها انتشار التمايز الطبقي من حيث الدخل والغنى، وحصر الثراء لدى أقلية من المجتمع، فيما ينتشر الفقر والفقراء في الدولة التي لا تشجع على الشفافية في مراقبة الثروات العامة بشكل دائم ودقيق، ما يعني تعرض هذه الثروات الى أنماط متجددة من التجاوزات التي لا يمكن الحد منها بعيدا عن التخطيط السليم في تقوية القانون والعقوبات الجزائية مع إجراءات مساعِدة كحملات التوعية، وتنمية الحس الإنساني والوطني، وتأجيج الوازع الذاتي والدافع الديني والأخلاقي، لترك حالات التجاوز على المال العام والتركيز على الوعي الاقتصادي والربط بين كرامة الإنسان التي تتأتى من تحقيق الكرامة الاقتصادية.
كما نلاحظ ذلك في نص ورد بأحد مؤلّفات الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (أنفقوا لكي تتقدموا)، حيث يقول سماحته: (إن الكرامة الاقتصادية تؤدي بالنتيجة الى الكرامة الاجتماعية)، وربما لهذا السبب يربط المختصون بين الكرامة الاقتصادية والكرامة الاجتماعية، ومساندة إحداهما للأخرى، علما أن الكرامة الاقتصادية لا يمكن تحقيقها، بعيدا عن إجراءات المراقبة المستدامة بشفافية عالية.
الجمود والكساد أصاب ثرواتنا
في بعض الدول توجد أنواع المخالفات، وهناك عصابات تسرق الأموال بطريقة أو أخرى، لكن الضرر الذي تتعرض له شعوبنا من النوع المزدوج، سرقة أموال مع عملية تهريب واسعة للخارج، فالمبالغ التي يتم التجاوز عليها، غالبا ما يتم تهريبها وتستخدم في عمليات غسيل الأموال وما شابه، لذلك تذهب هذه الثروات هدرا من دون أية فائدة كونها تفتقر للشرعية، وغالبا ما تكون مرصودة ومحاصرة، لذلك بقيت الثروات شبه جامدة في معظم الدول المحسوبة على الإسلام، ولم يتم توظيفها لصالح الشعب.
لذلك لاحظ الإمام الشيرازي حالة ركود الثروات بسبب تشتيت الإمكانات والفوائد فقال حول هذا الجانب: (في الحقيقة هناك جمود هائل أصاب الثروة في بلاد الإسلام). وكان من الأجدى لنا أن نطور نظام حماية ومراقبة للمال العام، يصبح جزء من نظام حماية الثروات، وبالتالي عندما تتوافر الثروة تكثر فرص التطور والاستثمار، وينمو الاقتصاد وتُبنى ركائز صحيحة له، يدعمه نظام دقيق، حيث التخطيط المسبق، والتنفيذ الدقيق، يؤدي الى نتائج مضمونة، فعندما تكون للفرد او المجتمع وفرة من المال، تكون هناك فرص أكثر للتطور وبالتجربة يمكن تطوير نظام مراقبة جاد وفاعل وحازم يحد من مظاهر التجاوزات.
وهذا بالضبط ما دفع الإمام الشيرازي للقول: (كلما زادت ثروة الإنسان زادت إمكانات تقدمه).
علما أننا لم نبذل ما يكفي من الجهود في مجال حماية ثرواتنا، وقد تم تأشير فقداننا للنظام الإداري الذي يضبط إيقاع حركة اقتصادية على أسس علمية حيث يؤكد الإمام الشيرازي حول هذا الجانب بكتابه نفسه قائلا: (لقد أصبحت الدنيا تسيرــ على الأغلب ــ تحت رعاية النظام والاقتصاد، فكل جماعة أو أمة أو شعب يفقد أحد الأمرين ينزل مستواه الى أسفل السافلين).
إن الحاجة لنظام رقابي متطور يمثل أحد أهم المعالجات العلمية لعدم هدر الثروات تحدّ، من خلال تطوير الرقابة والمحاسبة القضائية العادلة والحازمة، اذا اقتضى الأمر، إذاً هي جزء من حزمة القوانين التي تقارع التجاوز على المال العام، ولهذا تعمد إليها الأنظمة المتقدمة كي تحمي ثروات الشعب من التسرّب والتجاوزات.
تجارب عالمية نجحت في مضاعفة الموارد
علما أن المتجاوزين على الثروات تتضاعف لديهم نزعة الظلم والتجاوز والطغيان، بسبب كثرة أموالهم وقوة ثرائهم، حتى أنهم لا يحسبون أي حساب للقانون، بسبب قدرتهم على التعامل مع هذا الملف وفق طرق (الابتزاز والترغيب)، فتدخل في ذلك صفقات سياسية وأعمال قد تدخل فيها أعمال هدامة لا ينبغي التعامل معها بحسن نية، لأن الطمع يمثل كارثة بشرية لا تزال قائمة حتى هذه اللحظة. من هنا يرى الإمام الشيرازي: (أن الإنسان إذا استغنى طغى ولم ينفعه حينذاك إلا الشدة والخوف، ولكن لا خوف من القانون ولا شدة من السلطان).
ولكي يكون الخوض في موضوع هدر الثروات علميا، لابد من التطرق الى تجارب عالمية نجحت في فرض نظام رقابي متطور لمنع هدر الموارد والثروات، فقبل أكثر من قرن كانت اليابان تعد من الدول الفقيرة، بسبب عدم اعتمادها على نظام رقابة صارم على الاقتصاد كما تفعل اليوم، الأمر الذي أسهم في ضعف اقتصادها، وقلة ثرواتها، وعدم اعتمادها القوانين الاقتصادية الحازمة، فضلا عن افتقارها للنظام حيث لم تكن الحكومة فاعلة آنذاك في اليابان، لهذا كانت تعد من الدول الفقيرة، لكنها عندما تنبّهت لهذا الخلل الخطير، وصححت الأمور من خلال الحفاظ على ثرواتها وحمايتها من النهب، صارت اليوم في طليعة الاقتصادات الدولية الكبرى فباتت في أعلى تسلسل قائمة الاقتصادات الناجحة.
نقرأ ذلك في كتاب الإمام الشيرازي نفسه حيث يقول: (اليابان غزت العالم بصناعتها مع أنها ــ قبل مائة سنة ــ كانت من الدول المتأخرة، إنها أخذت فجأة بالنظام والاقتصاد، ولذا أخذت في التصاعد حتى بدأت تهدد الغرب في صناعتها). فإذا أرادت الدول الإسلامية والعربية أن تتقدم، وتلتحق بالركب العالمي المعاصر، عليها أن تعتمد نظام رقابي صارم على مواردها وحركة اقتصادها، فتُخضع جميع المؤسسات الاقتصادية لهذا الإجراء العلمي القادر على انتشار اقتصادنا من حالات هدر الأموال، وعدم السماح بانتشار الفساد الاداري أو غسيل الأموال أو الاختلاس أو أي نوع من حالات التجاوز التي يمكن أن تؤدي بالنتيجة الى تدمير الاقتصاد وإضعاف الموارد ومحق الثروات العامة..
اضف تعليق