كما يتراكم الغبار على الموجودات، يمكن أن تتراكم أخطاء الإنسان على قلبه، فتجعل من هذا القلب أكثر جمودا وجحودا وقسوة، فالغبار هنا كأنه الصدأ الذي يتكدس فوق سطح الحديد أو المعدن فيطفئ لمعانه ويمحو بريقه، كذلك أخطاء الإنسان إذا تراكمت من دون معالجة فإنها تطفئ نور القلب وتصيب البصيرة بالعمى، ويغدو الإنسان كالأعمى وهو يغذّ السير في متاهات الحياة، حيث يحتاج الى نور القلب كي يستدل به على الطريق المستقيم.
ومن سوء الحظ أن بعض الناس لا يعنيهم الخطأ الذي يرتكبونه، ولا تهمهم معالجته أو الوقوف عنده فيؤجلونه الى وقت آخر، وهكذا مع الأخطاء الجديدة، فتتكدس هذه الأخطاء ليصبح قلب الإنسان معتادا على التجاوزات وتضمحل فيه المشاعر الإنسانية، وينساها دون أن يتوقف عندها، حتى لو كان مؤمنا، وإذا وصل الإنسان الى هذه المرحلة فيمكن أن يكون قد وصل الى نقطة بداية فقدان الإيمان، واعتياد التجاوز على حقوق الله تعالى وحقوق الناس أيضا، واذا كان الله سبحانه رحيما غفورا، وربما يتنازل عن حقوقه بالعفو والمغفرة، فإن حقوق الناس تبقى في ذمة المتجاوِز عليها، لذا لابد أن يتنبّه الناس الى هذه القضية باستمرار، وذلك من خلال الوقوف عند النفس وأعمالها ومواقفها، وعدم ترك الخطيئة تفعل ما يروق لها، وإجبار النفس والقلب على التوقف عند الخطأ كثيرا.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، على هذه النقطة بالذات، ويدعو الى معالجة الأخطاء بشكل فوري، كما نلاحظ ذلك في قوله: إن (الإنسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأن غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة).
فالقضية هنا في حالة التراكم ستؤدي الى حجب الحقيقة عن الإنسان، وعند ذاك سوف تضعف بصيرته شيئا فشيئا، ويصبح غير قادر على فرز الحقائق من الزيف والخطأ، بسبب اعتياده للزلل في حياته، الأمر الذي يتطلب منه سعيا حثيثا ودائما لمراقبة النفس والتحكم بها، بدلا من حدوث العكس، لأن الإنسان إذا وقع تحت قيادة النفس ونزواتها وأهوائها، فإنه حينذاك يقع ضحية المعاصي المدمِّرة.
نفض غبار الجهل واليأس
على أننا ينبغي أن نعرف بأن الغبار يأتي في أنواع وأشكال كثيرة ومختلفة، فإذا كان أصله الرمل والتراب، فإنه يمكن أن يأتي أو يكون على شكل (غبار الخطيئة)، وغبار النفوس وغبار القلوب التي تعمي البصائر، وهنالك أنواع أخرى أيضا، منها كما يصفها الإمام الشيرازي بغبار اليأس والجهل، نعم هنالك غبار يصيب النفوس ويجعلها أكثر ضعفا وترددا وتراجعا ألا وهو غبار اليأس، أما العقول فمن الممكن أن تصاب بغبار الجهل، فيحيلها الى صفر على الشمال، إذ لا قيمة للعقول الجاهلة في عالم اليوم ولا حتى في عالم الأمس أو عالم المستقبل.
وهذا يعني فيما يعنيه حتمية أن يتخلص البشر من غبار الجهل حتى يكون عقله سليما، ويتخلص كذلك من غبار اليأس حتى يكون قادرا على التفكير والعمل والطموح والنجاح، ذلك أن الإنسان المصاب باليأس سوف يصاب بالشلل التام، فهو لا فائدة من وجوده في الحياة التي تستوجب عقلا متفائلا وقلبا جليا ونفسا مضيئة بالعلم.
كيف يتمكن البشر من تحقيق ذلك، هذا ما يجيب عنه الإمام الشيرازي عندما يؤكد على أهمية أن يمهد الإنسان نفسه للدخول الى شهر رمضان، وتمهيد النفس، بمعنى محاسبتها والوقوف اليومي والدائم عند أخطائها وتشخيصها بدقة، ثم العمل بقوة مضاعفة وإرادة حديدية لمعالجتها والقضاء عليها، عند ذاك تتكون لدى الإنسان إرادة صلبة قادرة على تحصين النفس والقلب ومنحه الضوء الروحاني الذي يجعل منه رائيا لكل شيء.
نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (لابد من غربلة تمهد الطريق إلى دخول شهر رمضان، ولابد للمؤمن الصائم من نفض غبار الجهل واليأس، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد حياته ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة المجتمع نحو الأمام).
ثمة ربط بين شهر رمضان وبين أن يكون البشر ذا قلب مؤمن قوي ونفس رائية منتجة وضاءة، تحتوي على فكر يليق بكرامة الفرد وحرية في كل زمان ومكان، وهو أمر تثبته الوقائع الدالة والشاخصة على الأرض، ولكن يبقى الإنسان المؤمن مادة الإنسان، وهو غايته ووسيلته، لهذا لابد أن يعد الكائن البشري المؤمن نفسه بصورة صحيحة وجيدة، ليكون أفضل في هذا الشهر الكريم من سواه، بمعنى ينبغي أن يكون الشخص المؤمن على استعداد دائم كي يكون عنصرا ناجحا في إعطاء الصورة المثالية للمشاركة في بناء الذات والمجتمع.
التوبة ومضاعفة الايمان
ويرى الإمام الشيرازي أن البشر عليه أن يعاهد ربه على أن يكون فردا صالحا في هذا الشهر الكريم، كونه شهر التوبة وشهر الخير دائما، وهو الأرضية المناسبة لمضاعفة الإيمان والعمل الجيد، والقادر على مسح غبار الأخطاء قبل أن تتكدس على القلوب، وقبل أن تغلّف النفوس بالمعاصي والذنوب التي قد يكون بعضها غير قابل على المعالجة أو المحو إلا بعد إظهار عزيمة نادرة للإيمان.
لذا يوجّه الإمام الشيرازي لمعالجة ذلك بقوله:
(على المؤمن أن يعزم في شهر رمضان مع نفسه أن يكون أفضل مما كان عليه، وأن يعاهد الله عز وجل على أن يكون لبنة جديدة تضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشر).
هل توجد علاقة بين محو الأخطاء والإنفاق؟، وهل هناك ما يربط بين معالجة المعاصي والتكافل، الجواب نعم يوجد ما يربط بين هذه المسميات، كما يحدث في واقع الحال، ونظرا لتردي الأوضاع التي يعيشها المسلمون في أصقاع الأرض المختلفة، فإن الإمام الشيرازي يتساءل بألم، لماذا لم يعد المسلمون مثلما كانوا في الحقب المشرقة من تاريخ الإسلام، ولماذا قلّ لديهم تقديم العون للآخر، وقلت حالات الإنفاق من أجل البناء، في شهر رمضان أو سواه، هل هناك سبب محدد لهذه الظاهرة المؤسفة، خاصة أن شهر رمضان يتطلب نوعا خاصة من التكافل والتعاون والإنفاق بين المسلمين، وهذا بالذات أحد أهم السبل التي تسهم في محو الخطيئة وإضاءة القلوب وتربية النفوس ودعمها بما يلزم من بوادر الإيمان.
وهكذا نلاحظ أهمية أن يجلو المؤمن قلبه بالإنفاق والتكافل والربط بين هذه الأنشطة الإنسانية المتحضرة وبين القضاء على الخطيئة التي تحاصر النفوس والقلوب في دنيا مليئة بالمغريات التي تفتح ذراعيها للنفس كي تسقط في أحضانها، حتى غابت الرحمة وانطفأت الرغبة في مساعدة الآخرين من المسلمين عبر الوقف والتبرعات والإنفاق بأنواعه، وهنا يستغرب الإمام الشيرازي هذا التراجع والإهمال الذي يسهم في مضاعفة غبار الخطيئة ويجعل القلوب أكثر ظلمة، بسبب عدم إبداء التعاون من القادرين:
يقول الإمام الشيرازي في تساؤلاته: (في هذا العصر الذي تفجر النفط في كثير من بلاد الإسلام، لا ترى حتى نصف ذلك المقدار من موقوفات جديدة، فهل هذا زهد من المسلمون في الآخرة). ويضيف سماحته: (وبالعكس: ترى غير المسلمين يتبرعون بكثرة هائلة). ما يستوجب أن يتنبه المسلمون لاسيما المقتدرون منهم ماديا على الشروع الفوري بمساعدة الآخرين والعمل على مسح غبار الأخطاء المتراكمة على قلوب ونفوس الناس لجعلهم أكثر رحمة وتعاونا وتكافلا وإيمانا.
اضف تعليق