q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

الطغيان السياسي والاقتصاد بالدماء

قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي –قدس سره-

"نفسية الطغاة على قسمين: إما أن يكون طاغياً ماكراً، وإما أن يكون طاغية بليدا.

علامة هذين النوعين من الطغاة؛ أن الطاغية الماكر، مخادعٌ في الحرب، دنيء في السلم، بينما الطاغية البليد، شرسٌ في الحرب، ومستهترٌ في السلم، ومثالنا في معاوية ويزيد.

فقد كان معاوية من النوع الماكر، وكونه ولد زنا، وقد ثبت لدى علماء النفس، أن ولد الزنا يكون ماكراً، ويكون المكر من طبيعة هذا الانسان، ولا أسميه ذكيا، لأن الزنا يقع مع اضطراب نفس الانسان الزاني، والخشية من أن يراه أحد أو يعرف بحقيقة أمره أحد، فهذه الهواجس والمخاوف تنطبع في المولود، بل ان علماء النفس يذهبون الى أبعد من ذلك بالقول: أن مجرد النظر الى صورة معلقة في الجدار خلال المواقعة، يترك أثره في الجنين في بطن أمه.

ولذا جاءت الكراهية في الأحكام الاسلامية، بأن يواقع الرجل زوجته وذهنه مشغولٌ بامرأة أخرى، وهنالك روايات قطعية في كتاب النكاح تنهى عن هذا الفعل.

وإذن؛ تميّز معاوية بالمكر في حربه مع أمير المؤمنين، عليه السلام، كما تميّز بالدناءة في سلمه مع الامام الحسن، عليه السلام.

أما القسم الثاني: فهو الطاغية البليد، ومثاله يزيد ابن معاوية، الذي تميّز بالشراسة في الحرب، لذا ارتكب تلك الجريمة النكراء في يوم عاشوراء، كما كرر جرائمه الشرسة في واقعة الحرة بالمدينة، وفي الهجوم على بيت الله الحرام، فهو تميّز ايضاً بالشراسة في السلم، فقد عُرف عنه فسقه وفجوره ولعبه بالقرود والفهود والسكر، حتى نُقل عن بعض "العلماء" آنذاك، بأننا نخشى أن تمطرنا السماء بالحجارة لأن يزيد أخذ يرتكب الزنا بالمحارم.

إن الطغيان لا يستجيب للقوانين والموازين والفكر والتعقّل، ولذا سُمي "طغيان"، كما يحصل لبعض الانهار، وعلى طول التاريخ، يقف هذان النوعان من الطغيان، ولا ثالث لهما.

من هنا؛ نجد التقدير الإلهي بأن يواجه الإمام الحسن، عليه السلام، طاغية من القسم الأول، فيما جاء التقدير الإلهي للإمام الحسين، عليه السلام، لأن يواجه طاغية من النوع الثاني، وهذا يستدعي المصلحين في العالم بأن يختاروا أحد الطريقين لتحقيق أهدافهم الإصلاحية؛ إما الاقتداء بالامام الحسن عندما يواجهوا طاغية مثل معاوية، وإما أن يقتدوا بالامام الحسين، اذا كان أمامهم طاغية مثل يزيد".

الحكمة علاج الطغيان

رزحت الشعوب الاسلامية طيلة القرن الماضي تحت وطأة أنظمة سياسية فاسدة تسبب في سفك الدماء الدماء وتدمير البلاد وإبادة العباد، فكان أن تحركت القوى الواعية في المجتمع لمواجهة العقل الفاسد لهذه الانظمة، متمثلاً بالحاكم الطاغي على جميع القيم الانسانية والاخلاقية والموازين الطبيعية، وهذه الخصلة تكون في أبشع صورها، عندما يصل السياسي الى قمة السلطة، فتكون اسقاطات هذا الطغيان اكبر على جوانب حياة الانسان، بل حتى الطبيعة ايضاً، وإلا فان الطغيان او ما يسميه البعض بـ "التفرعن"، ربما لا يكون في مستوى رئيس جمهورية او قائد عسكري، إنما في مستوى رب الأسرة الصغيرة.

بيد ان هذا الطغيان في قمة السلطة، لم يكن باتجاه واحد وإنما اتجاهان، أو منهجان في الحكم، رغم التقاء الافرازات السيئة على ارض الواقع، حيث الفساد والانحراف والتخلف، فالمسألة تتعلق بشخصية ذلك الطاغية ونشأته، وهو ما يشير اليه الامام الشيرازي الراحل، في المقطع الصوتي المرفق، لمزيد من التبصّر خلال مسيرة مواجهة الانظمة الجائرة والمصابة بحالة الطغيان السياسي، وكيفية معالجتها بأقل الخسائر واكثر المكتسبات.

يبين سماحته وجود نوعين من الطغاة في ساحة المواجهة؛ الأول: الطاغية الماكر، وهذا ينتهج الخداع في المواجهة (الحرب)، وفي الاوضاع الطبيعية (السلم) يكون دنيئاً وخبيثاً، بينما النوع الثاني: وهو البليد من الطغاة، فانه ينتهج الشراسة خلال المواجهة والاستهتار في الاوضاع الطبيعية.

وفي لقاء جمعني مع أحد علماء الدين، وخلال حديثه عن دور كل من الإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، فوصفه بدقة متناهية بالقول: "إن أفضل صلح شهده العالم هو صلح الإمام الحسن، كما إن أرقى حرب شهدها العالم هي ما خاضه الإمام الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء"، فالهدنة التي وقعها الامام الحسن، استهدفت بالدرجة الاولى المنهج الاول؛ وهو خداع معاوية، فضربته في الصميم، كما استهدفت نهضة الامام الحسين، المنهج الثاني؛ وهو شراسة يزيد، فألحقت به الهزيمة النكراء والمدوية التي ما يزال التاريخ يسطر ملاحمها البطولية وتستذكرها الشعوب والاجيال في العالم.

ولعل الهزيمة المنكرة بالطغيان يكون نصيبها الطبيعي ولا حظ لها غيره، فالطغيان، من حيث المفهوم يستدعي الفوضى والاضطراب والخروج على كل القيم لتحقيق مصالح سياسية وحسب، ولذا؛ من اجل مواجهة طغيان الانهار ينبري الخبراء واصحاب العقول لوضع افضل الخطط لإنشاء السدود الحصينة لكبح جماح المياه المتدفقة وحصرها في بحيرة كبيرة هادئة.

وعندما نستذكر تجارب الشعوب في مواجهتها للطغيان السياسي الغاشم، وحجم التضحيات التي قدمتها مقابل حجم المكاسب، نجد أن معالجة حالة الطغيان عند هذا الزعيم او ذاك الديكتاتور، لم تكن بالحكمة والذكاء الذي يتصفّ به بعض الاطباء في عملياتهم الجراحية عندما ينجزون عمليات كبرى ذات حساسية عالية في القلب والشرايين وغيرها، ويحققون النجاح الباهر مع الاقتصاد بالدماء وعدم تعريض المريض للنزيف.

بمعنى؛ أن شعوبنا لو كانت مقتدية بالإمامين الحسن والحسين، عليهما السلام، - كما كان أمل ورجاء الامام الشيرازي الراحل- لما كان الطغاة يستنزفون قدرات البلاد والعباد طيلة العقود الماضية، وهم لم يستحقوا كل هذه التضحيات الجسام، بحيث انتاب الشعوب العربية شعورٌ بالخجل من حقيقة الحكام المرّة عندما انكشفت في حفرة وسط احد البساتين تضم طاغية طالما ادّعى البطولة والشجاعة، مثل صدام حسين، وعندما يلوذ بالفرار شخص مخابراتي عتيق، مثل زين العابدين بن علي، ويترك بلده وشعبه تحت جنح الظلام وبكل هدوء، كما لو يكون أحد المسافرين العاديين على متن الطائرة المتوجهة به ملجأه السعودية.

إن احداث الربيع العربي التي نشير اليها، تُعد عبرة بليغة للشعوب يفيدها في مواجهتها المستمرة مع حالة الطغيان الملازمة لقمة الحكم – على الأغلب- في حاضرها ومستقبلها لئلا تخسر المزيد من الدماء والقدرات مع تخلّف وانحطاط يصعب تغييره.

اضف تعليق