من الأسس الرئيسة لنهوض دولة ما، أن تمتلك أجهزة إدارية متطورة، ينظّم عملها وإجراءاتها الإدارية نظام محترف ومحدّث، على أن تكون هناك نسبة عالية من الشفافية والنزاهة في عملية مراقبة إدارة المشاريع بأنواعها وأحجامها، هذا يعني إبعاد السلطة العليا عن فحص صلاحية الإجراءات الإدارية في المشاريع العامة التي يتم تمويلها من خزينة الدولة.
فأي مشروع اقتصادي ضخم أو بدرجة أقل، سوف يخضع للسلطات العليا لاسيما في الدول المتأخرة، كما هو الحال في العراق، حيث تهيمن السلطة التنفيذية على المشاريع الضخمة، وتتدخل في إدارتها، حتى تحصد منها أقصى ما يمكن من الفوائد المالية بالدرجة الأولى، فالأحزاب التي تتقاسم السلطة في العراق، دسَّت أنوفها في النظام الإداري برمته، حتى تحوّل الى نظم بيروقراطي بحت، يخضع للسلطات العليا والفرعية التي نقص بها مدير عام إدارة المشروع ومن يعاونه في هذا المجال.
إذاً عندما يخضع أي مشروع من حيث الإدارة للسلطة، فهذا يعني خراب النظام الإداري لذلك المشروع وفشله في تحقيق النتائج والمردودات الاقتصادية المتوقعة منه، لذلك لا ينبغي للسلطة العليا ومن يتبع لها من مدراء عامين، أن تتدخل في فحص النظام الإداري للمشاريع وتوجيهه وفقا للفوائد التي تحصل عليها السلطة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، تصدّى لهذه الظاهرة البيروقراطية الخطيرة، نلاحظ ذلك في كتابة القيّم الموسوم بـ (الفقه: الإدارة ج2)، حيث يقول سماحته حول هذا الجانب: (يقوم رئيس مجلس الإدارة أو أصحاب السلطة العليا بفحص الإجراءات الإدارية للإطلاع على الخلل ثم علاجه، لكن بعض المختصين رأوا أنه لا يصح للمدير العام القيام بعملية فحص الإدارة وكذلك أصحاب السلطات العليا، لأنهم غالباً ما يكونون منغمسين في الجو الذي خلق المشاكل ولذلك يصعب عليهم تمييز مصادر المشاكل طالما أنهم تعوّدوا عليها).
من هنا فإن الفحص الدقيق للنظام الإداري في مشروع ما، سوف يسحب البساط من تحت أقدام المسؤولين الحكوميين، ويمنعهم من تحقيق مآربهم بخصوص الاستفادة غير المشروعة من إدارة المشاريع، كما يحدث في المشاريع العراقية اليوم.
يكرر الإمام الشيرازي قوله الواضح حيال هذه النقطة تحديدا فيقول في المصدر المذكور نفسه: (غالباً ما يحد فحص الإجراءات الإدارية من حرية أصحاب السلطة في العمل الإداري وذلك ما لا يريدونه).
خطوات مراقبة العمل الإداري
إذا افترضنا أن أصحاب القرار صادقون في نواياهم، وأنهم حريصون بالفعل على الإدارة السليمة للمشاريع الاقتصادية الكبيرة (الإنتاجية والخدمية وسواها)، فإن حسن الإدارة وسلامة النوايا تستدعي من أصحاب السلطة، أن يكون هنالك تعاون جاد مع مكاتب استشارية تضم خبراء متخصصين في طبيعة المشروع، بالإضافة الى التنسيق مع لجان من أفراد وخبرات عاملة بشكل فعلي بالمشروع، بمعنى ليس صحيحا أن يُترك المستشارون وحدهم في مهمة اختبار صلاحية الإجراءات الإدارية للمشاريع الخاصة بالدولة، أو مشاريع المال العام، كذلك لا ينبغي ترك هذا الأمر بأيدي لجان إدارية تعمل في المشروع نفسه تحاشيا للتجاوزات التي قد تنتج عنها فساد أو إلحاق ضرر بالمال العام.
لذا من الأفضل أن تبادر السلطات العليا، والمدير العام للمشروع، بتكوين لجنة مشتركة من الطرفين، أي من مكاتب المستشارين، بمشاركة لجنة من الخبراء العاملين في المشروع نفسه، مع أهمية حضور الرقابة والنزاهة وتحريك عنصر الشفافية بأقصى دور لها، لحماية مثل هذه المشاريع من التجاوزات.
لذلك يرى الإمام الشيرازي أنه: (لمراقبة العمل الإداري ينبغي أن يقوم رئيس مجلس الإدارة أو أصحاب السلطة العليا بالتعاون مع مكاتب الاستشارة المتمرسة في الإدارة، أو مع لجنة من الإداريين، لكشف نقاط الضعف حتى لا يكون المنغمسون في المؤسسة بمفردهم، ولا ينفرد المستشارون أو المتخصصون بهذه المهمة).
وهكذا يمكن اختبار صلاحية الإجراءات الإدارية للمشاريع المتنوعة، من خلال لجنة مركبة من المستشارين من جهة، ولجنة من العاملين في إدارة هذه المشاريع من جهة ثانية، والحقيقة أن طرق فحص الإجراءات الإدارية سوف تكون مختلفة بين الفريقين، ويندرج تحت هذا البند وجود عيوب ومزايا لكل من الجهتين أو الطريقتين.
كما يشير الى ذلك سماحة الإمام الشيرازي في قوله: (الأفضل أن تكون هنالك لجنة مركبة من الطرفين – مكاتب الاستشارة أو المتخصصين، ولجنة من الإداريين في المشروع-، تقوم بعملية الفحص، وذلك لأن الفحص أو التفتيش يجب أن يتحقق بإحدى طريقتين، أما تجريه مكاتب الاستشارة والمتخصصين في الإدارة، أو لجنة من الإداريين بالمشروع ولكل طريقة من الطريقين مزايا وعيوب).
مزايا وعيوب مكاتب الاستشارة
لقد تطرق الإمام الشيرازي الى هذه الأفكار قبل عقود، وناقش في كتابه هذا (الفقه الإدارة ج2)، كيفية إدارة المشاريع الحكومية، وكان الهدف من طرح هذه الأفكار، هو الإسهام في التصدي لحالات الفساد التي قد تشوب إدارة مثل هذه المشاريع، والحقيقة المؤسفة تؤكد بأن واقعنا الذي نعيشه الآن يغص بالتجاوزات الإدارية في المشاريع الحكومية، ما فتح الباب واسعا أمام الفساد، فيما بقي الشعب هو المتضرر الأكبر من هذه التجاوزات.
لذلك من أجل إدارة أفضل للمشاريع الحكومية المتنوعة، من الأفضل أن يُعتمد على خبراء ومكاتب استشارة، لأن ذلك يدخل عنصر التخصص في الإدارة، وكذلك ينبغي أن يتم ضمان ابتعاد القائمين على العمل الإداري للمشاريع، عن التيارات والولاءات السياسية الحزبية، وأن يكون المسعى الأساس هو الفائدة الجمعية العادلة، وهكذا يمكن أن تتحقق في العمل الإداري مزايا التخصص والبعد عن مصالح السلطة العليا غير المشروعة، بالإضافة الى دقة الولاء.
ويرى الإمام الشيرازي في كتابه هذا، أنه: (من مزايا استخدام مكاتب الاستشارة وخبراء الإدارة أولاً: التخصص. وثانياً: الموضوعية والبعد عن التيارات السياسية والعاطفية داخل المشروع، وعدم الارتباط بولاء معين لأية مجموعة).
ولكن قد تكون هنالك مثالب ترافق عمل المستشارين في المشاريع العامة، فربما يجهل المستشارون طبيعة العمل الإداري للمشروع، يحدث هذا عندما تتدخل إرادة الأحزاب والسلطات لفرض مستشارين لا يمتلكون الخبرة ولا الكفاءة لفحص الإجراءات الإدارية وهل هي مناسبة وناجحة أم عكس ذلك، فتدخل السلطات العليا، وتأثير الأحزاب في تعيين المستشارين بات واضحا للعيان، خصوصا أن الطبقة السياسية تسعى لاستثمار المناصب ماديا بأقصى ما يمكن، من هنا يحذر الإمام الشيرازي من هذا الخلل الكبير.
وهذا بالفعل ما يجري اليوم في القطاع الإداري العراقي، حيث يتم إقصاء الكفاءات بعيدا، ويتم تقريب عناصر لا كفاءة ولا خبرة لها في تقييم المشاريع المختلفة، كذلك هناك مشكلة أخرى تتعلق بالمستشارين، حيث قد تتعرض المعلومات الخاصة للمشروع الى التسريب، وهذا أمر متوقع، وقد ينطوي على مخاطر كبيرة، لذا ينبغي التنبّه الى هذا الجانب بدقة وحرص.
وهنالك عيب آخر يخص المستشارين العاملين في المشاريع الحكومية، ويتلخص بالمبالغ الطائلة التي يحصلون عليها مقابل عمل لا يستحق مثل هذه الأتعاب الخرافية، علما أن الأموال التي يحصل عليها المستشارون هي من عائدات الشعب وحقوقه، لذا تعد مثل هذه الأمور نوعا من الفساد المكشوف، وهذا يحدث بشكل فعلي في العراق الآن.
لكن الإمام الشيرازي حذر منه قبل عقود طويلة، حين قال سماحته عن ذلك بوضوح: (أما عيوب مكاتب الاستشارة فهي قد تتجسد في عدم المعرفة الكاملة بظروف المشروع. وثانياً احتمال تسرب الأسرار .الخاصة بالإدارة. وثالثاً : كثرة المبالغ التي تتقاضاها تلك المكاتب).
اضف تعليق