هناك توقّع نمطي عن دور الأحزاب في بناء الدولة، خاصة عندما يتعلق الأمر بعامة الناس ونحن نعني هنا الدول الإسلامية والعربية، ففي هذه الدول توجد أزمة عدم ثقة بين الأحزاب وشرائح مجتمعية واسعة، والسبب في حقيقة الأمر يعود الى عدم قدرة هذه الأحزاب على تجسيد شعاراتها واقعيا، كذلك يوجد بون شاسع بينها وبين طموحات المجتمع، فالأحزاب هنا أكثر ما تطمح بتحقيقه وتسعى إليه هو الوصول الى السلطة والاستئثار بامتيازاتها من أموال وسلطة ونفوذ وأمثاله.
لذلك مع هذا الصدع الموجود في العلاقة بين الأحزاب وعامة الناس، لابد من إعادة نظر لهذه العلاقة التي يصفها بعض المراقبين وعلماء السياسة، بأنها تجربة مريرة للأحزاب السياسية مع السلطة والمجتمع، كونها لم تستطع أن تنتقل بشعوبها الى مرحلة أعلى من الحياة الحرة، خلافا للأحزاب الموجودة في المجتمعات المتطورة، فالحزب السياسي في بلداننا الإسلامية غالبا ما يضع مصالحه وأفراده في مقدمة اهتماماته متناسيا أن الهدف الأساسي من تشكيل الحزب، ليس الحصول على المناصب والاستئثار بالسلطة، بقدر ما يتعلق الأمر بتقديمه للخدمات الكثيرة لعموم أفراد الأمة وتحقيق مطامحهم التي غالبا ما ترتبط بسقف واطئ من متطلبات العيش البسيط، فالناس في الحقيقة لا يطالبون بما هو تعجيزي ومع ذلك يتم إهمالهم تمام الإهمال من الأحزاب وقادتها الذين ينشغلون بمصالحهم الفردية او العائلة أو الحزبية.
لذا يعرّف الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الحزب في كتابه المهم الموسوم بـ (الشورى في الإسلام) في كلمات واضحة تبيّن بأن: (الحزب، تجمعٌ لأفراد لهم مصالح مشتركة من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وأنه من أجل استلام السلطة ينشط ويتحرك في إطار برنامج عام).
ولكن هل هذه هي مهمة الأحزاب، هل ترغب بالسلطة والامتيازات، أم أنها صاحبة أهداف كبيرة وبعيدة المدى تخص بناء الدولة والنهوض بالأمة ومكافحة التخلف والمرض والجهل، والتصدي للدور الإنساني قبل أي دور آخر له علاقة بالمصالح الذاتية القاصرة ضيقة الرؤية والأفق، لذا هنالك أمر بديهي تعرفه جميع التنظيمات السياسية وهو، إذا أراد أي تنظيم كسب شعبية الناس وتأييدهم له، عليه أن يقدم مصالحهم على مصالحه أولا، لاسيما أن الوصول للسلطة يعد من الأهداف المشروعة لأي حزب سياسي مكون من مجموعة من الأفراد ويكتسب الشروط المعروفة بكونه مكتسبا للشرط التي تجعل منه تنظيما سياسيا..
تحاشي المصالح الفردية والحزبية
من شروط نجاح الأحزاب السياسية في عملها، وإتاحة الفرص لها لإقامة علاقات متوازنة مع الجماهير، وضع برنامج واضح ومعلوم لعملها، فلابد أن يكون هناك برنامج سياسي مخطط له مسبقا يمكنه أن يعطي أو يقدم انطباعا واضحا عن طبيعة النشاط الفكري والعملي للحزب، ولا ينبغي أن يكون نشاط الحزب فوضويا أو غير محكوم بعمل تنظيمي واضح المعالم، وينبغي ان يصب البرنامج الحزبي في الصالح العام أولا، لذا ليس هناك مجتمع بإمكانه الاستغناء عن الأحزاب السياسية، لكن الأمر ينبغي أن يبقى ضمن حدود المصلحة العامة، ولا تنحصر أهداف الحزب بتحقيق المكاسب الحزبية او الفردية، كما حدث بالنسبة لأحزاب الشعوب المتأخرة، لكن لا تنتفي الحاجة الى الحزب، في المجتمعات التي تتبنى المنهج التحرري، كما أن الدول الطامحة لبناء نظام سياسي قائم على الشورى، والتداول السلمي للسلطة تحتاج الى العمل الحزبي المنخرط ضمن إطار دستوري مشرَّع شعبيا، أو مستفتى عليه من الشعب.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع: (إن المجتمعات التي تتبنّى الديمقراطية الاقتصادية بما يجعلها في غنىً عن الأحزاب، تحتفظ في نفس الوقت بهذه الأحزاب بوصفها تنظيمات من أجل الكفاح الاجتماعي المُتواصل، وذلك لغاية رفع مستوى الوعي السياسي وتحقيق الخيارات الاجتماعية).
من المهم أن يخطط قادة الأحزاب لتأكيد النجاح في العمل السياسي، وهذا الأمر يقوم على حزمة من الركائز والالتزامات، أهمها السعي لبناء الدولة المدنية الحامية للحقوق، من هنا يجزم المعنيون بأنه لا يمكن أن يُكتب النجاح للحزب السياسي، طالما كان بعيدا في أهدافه وسلوكياته عن أهداف الشرائح الشعبية الكبيرة، وخاصة تلك التي عانت من الحرمان والعوز، لأن العمل لصالح الحزب وقيادته وأعضائه فقط، تجعل منه حزبا دكتاتوريا بعيدا عن هموم الناس، أما كيف يتحول الحزب من مهمته الوطنية المتعارف عليها، الى حزب ضيق الأفق يعمل في خدمة نفسه ومنافعه، فذلك يرتبط أولا بقيادته التي تسعى الى استثمار الفرص لصالحها ومسخ أعضائها وإضعافهم، وجعلهم من دون إرادة، ومستجيبين لكل ما يصدر عن قيادة الحزب، من دون إتاحة فرصة حرية الرأي او التعبير لهم، لذلك غالبا ما تكون مثل هذه الأحزاب بعيدة عن منصة النجاح، كما هو الحال مع أحزاب الدول المتأخرة عن الركب الديمقراطي.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي في هذا الشأن، على: (الأحزاب في البلدان النامية، تفقد نفوذها الاجتماعي وطبيعتها الشعبية تلقائياً، إذا كانت مُمثِلةً بصورة مباشرة للحكومات والنظم السياسية والاجتماعية القائمة في البلاد، فانّ مثل هذه الأحزاب تفتقد للجاذبة السياسية والشعبية، وذلك لأنّها ديكتاتورية بطبيعتها).
مشكلات تواجه الأحزاب السياسية
في الدول ذات الأنظمة غير الديمقراطية تتعرض الأحزاب لمشكلات وضغوط مزدوجة، فالحكومة المستبدة لا ترغب بالأحزاب، فتقوم بسن تشريعات وإجراءات تحد من حرية الأحزاب، لأن النظام السياسي يشعر أن العمل الحزبي الحر يشكل خطرا على عرشه وسلطاته، ولذلك سوف يفشل الحزب، وهذا يجعل الناس تبتعد عنه كونه لا يحقق ما تصبو إليه.
في هذه الحالة يتعرض الحزب الى ضغط الحكومة وضغط الشعب، إذا هنالك إشكالية بين عمل الأحزاب السياسية وبين الحكومة في المجتمعات المتأخرة، حيث في الغالب تلتبس العلاقة بين الطرفين، وتتحول من حالتها الايجابية المفترضة الى حالة من فقدان الثقة والصراع، ناهيك عن عزوف الناس نفسيا عن العمل السياسي او الانخراط في الأحزاب وما شابه، بسبب عدم قدرة الأحزاب او الحكومة على تجسيد تطلعات الناس وطموحاتهم في العيش الكريم.
هذا الأمر جعل الإمام الشيرازي يؤكد في كتابه نفسه على أن: (الحكومات الحزبية لا ترغب في توزيع السلطة بين الأحزاب الصحيحة والسليمة، فانّ الأحزاب تصبح على شكل منظماتٍ لا تشعر الحكومة أمامها بالمسؤولية، كما أن الناس لا ترى فيها ما يُجسّد ويعكس خياراتها الاجتماعية ومتطلباتها الاقتصادية).
هذا يعني أن نجاح الأحزاب في العمل السياسي يرتبط بطبيعة علاقة الحزب بالجماهير أو بعموم المجتمع، فإذا نجح في إقامة علاقة متوازنة تقوم على الثقة والدعم المتبادل، هذا سوف يصب في صالح الحزب قطعا، وفي صالح الجمهور أيضا، ولعل هذا الأمر يعود الى قادة الأحزاب وقدرتهم على التفكير السليم في بناء علاقة ثقة رصينة مع الشعب، تقوم على النتائج التي يعكسها عمل الأحزاب في الساحة السياسية وما ينتج عنها لصالح المجتمع والدولة معا.
وفي هذا الإطار يتساءل الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع قائلا: (هل للأحزاب مقدرة على تجسيد الخيارات الاجتماعية للشعوب ؟ وهل هي قادرة على التعبير عن رؤيتها وتحسسها بقضايا الأمة أو تؤدي إلى تصنيف المجتمع إلى فئاتٍ نخبوية بلا حدود وفئاتٍ فقيرة بلا حدود ؟ وهل هي قادرة على أن تكون سنداً وقوةً للجماهير الشعبية ؟).
اضف تعليق