كربلاء مدينة العلم والعلماء, والمدارس العلمية الحوزوية, والحلقات الدراسية ذات الطابع الديني, حيث ارتبطت هذه المدينة منذ قرون سحيقة بالعلم, وتبوأت مكانة دينية وعلمية بارزة وصلت في مراحل إلى زعامة العالم الإسلامي, فانتشرت بها المدارس العلمية التي أنجبت أفذاذ العلماء والمفكرين الذين كان لهم أثر كبير في رفد الثقافة الإسلامية والإنسانية، وقد عُدّ وجود هذه المدارس والحوزات العلمية من مظاهر هذه المدينة ومن سماتها البارزة, فكانت القراءة والبحث والدراسة من حيثيات الحياة اليومية الكربلائية, فازدهرت المدارس العلمية رغم صغر حجم المدينة قياساً بالمدن الأخرى, ومما يدل على اهتمام الكربلائيين بالحركة العلمية والثقافية العامة, والحرص على تفعيلها وجعلها مستمرة ومتواصلة, أن أول مطبعة حجرية دخلت إلى العراق كانت في مدينتهم وذلك عام (1273ه ـــــ 1856م) وفي نفس السنة دخلت مطبعة أخرى إلى الموصل وبعد أربع سنوات أي في عام (1860م) دخلت أول مطبعة حجرية إلى بغداد.
وكان لهذه الحركة العلمية والدينية في كربلاء أثراً بارزاً ومتميزاً في إغناء الفكر الإسلامي والحضارة الإنسانية, ولشد ما يُذهل القارئ إن تاريخ كربلاء مع العلم حافل بالإنجازات, ومتواصل ومستمر, رغم النكبات والهجمات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المدينة على مدى تاريخها الطويل, كما يعد كثرة المدارس التي تعددت في المدينة ــــ رغم انحسارها بفعل الظروف القاهرة ــــ مؤشراً واضحاً على مدى رغبة أهلها في طلب العلم.
وبالعودة إلى تاريخ المدارس في كربلاء يجد القارئ أن هذه المدارس كانت ضرورة من ضرورات الحياة اليومية في المجتمع الكربلائي كالماء والغذاء فكثرت وازدهرت وانتشرت وشكّلت معلماً علمياً وحضارياً وثقافياً للمدينة وإرثاً خالداً يحق لكربلاء أن تفخر به.
وسنستعرض أهم هذه المدارس في تاريخ كربلاء والتي كانت في وقت من الأوقات تعج بطلاب العلم والشباب الواعي الذي كان حريصاً على حضور حلقات الدروس العلمية والنهل من المواضيع الدينية والأدبية والفلسفية والفكرية التي كانت تطرح فيها.
تشير المصادر التاريخية إلى أن الحركة العلمية ارتبطت بكربلاء بعد استشهاد الإمام الحسين مباشرة, حيث توافد الكثير من العلماء ورواة الحديث على قبر الإمام الحسين (ع) في عهد المختار الثقفي, وعقدوا حلقات الذكر والرواية عند القبر الشريف كما هو معتاد عند المزارات المقدسة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة, وبقيت حلقات الدروس في كربلاء بعدها تبرز وتنحسر بفعل السياسات المتفاوتة التي مرت على الأمة الإسلامية.
غير أن أول مدرسة ظهرت في كربلاء كانت عام (369هـ/980م) وهي المدرسة (العضدية) التي كانت تقع بجانب مسجد رأس الحسين قرب باب السدرة والتي شيدها عضد الدولة البويهي, وبقيت هذه المدرسة تمارس نشاطاتها حتى زوال العهد الصفوي ثم اندرست عام (1354هـ /1935م) ثم توالت المدارس في كربلاء في العصور اللاحقة فيشير ابن بطوطة في رحلته سنة (727هـ) إلى وجود مدرسة علمية كبيرة في كربلاء باسم (مدرسة ابن شاهين).
الجدير بالذكر أن هذه المدارس قد بُنيت بمواصفات معمارية رفيعة تتناسب مع أهميتها الدينية والعلمية ـــ وهذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مفصّلة ـــ حيث ترك التجانس المتعدد بين أهالي كربلاء بصمة الحضارات العمرانية المتنوعة في تلك المدارس ولا يزال أثره واضحاً في مباني الأزقة القديمة في كربلاء, كما يجدر بالذكر أيضا إن هذه المدارس قد هُدّمت من قبل السلطات المتعاقبة التي حكمت العراق فكان ذلك تقويضاً لتراث حضاري وعلمي وإنساني لا يعوّض.
وهذه أسماء أشهر المدارس التي عرفتها كربلاء خلال تاريخها العلمي:
1ــــ مدرسة السردار حسن خان: وتعد هذه المدرسة من المدارس المهمة في كربلاء شُيّدت عام (1180هـ ــــ 1767م), من قبل السردار حسن خان القزويني, وكانت في وقتها أكبر مؤسسة علمية في كربلاء قل نظيرها في المدن المقدسة, وتقع في الزاوية الشمالية الشرقية لصحن الإمام الحسين (ع) وقد تخرج منها كبار العلماء والمفكرين والمصلحين المسلمين أبرزهم المصلح الكبير جمال الدين الأفغاني, والعالم الكبير الشيخ شريف العلماء المازندراني. كما درّس فيها كبار العلماء والمراجع خلال القرنين الأخيرين, وكانت تحتوي على سبعين غرفة, وعدة قاعات للدروس, وكُسيت جدرانها بالزخارف الهندسية تعلوها آيات قرآنية منقوشة بدقة متناهية, وقد انفق السردار أموالاً كبيرة في إنشائها.
وقد تعاقب على تولية إداراتها علماء أجلاء كان آخرهم السيد عباس الطباطبائي. هُدّم قسم من هذه المدرسة عام 1948م, وفي عام 1991م لم يبق لها أثر.
2ـــــ مدرسة السيد المجاهد: تقع هذه المدرسة في سوق التجار الكبير بالقرب من مرقد السيد محمد المجاهد الطباطبائي, وهناك وثيقة بالوقف الخاص بها تشير إلى أنها بُنيت عام (1270هـ), وقد تخرج منها علماء كبار أمثال السيد محمد باقر الطباطبائي, والسيد محمد علي الطباطبائي, والسيد مرتضى الطباطبائي الذين ينتسبون لبيت السيد علي الطباطبائي (صاحب الرياض) ومن أشهر أساتذة هذه المدرسة الشيخ محمد علي سيبويه والشيخ عباس الحائري وقد هُدّمت هذه المدرسة سنة (1980م) بسبب فتح شارع بين الحرمين.
3ــــ مدرسة الصدر الأعظم النوري: أنشأ هذه المدرسة المرجع الديني الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني المتوفى سنة (1286هـ) والذي سكن كربلاء عام (1280هـ), حيث أوكل إليه الملك القاجاري في إيران مهمة تعمير وترميم العتبات المقدسة في كربلاء والكاظمية وسامراء, فأنفق الطهراني على بناء هذه المدرسة من ثُلث الإرث المتبقي من الأمير الإيراني الميرزا تقي خان (الصدر الأعظم) المقتول سنة 1268..
وقد تولى إدارة المدرسة العالم المجاهد الشيخ محمد تقي الشيرازي سنة 1338هـ وانتقلت من بعد وفاته إلى نجله الشيخ عبد الحسين الشيرازي, وكانت هذه المدرسة تقع قريباً من الروضة الحسينية الشريفة وأبرز أساتذتها الشيخ أبو القاسم الخوئي, وقد أزيلت هذه المدرسة بسبب فتح شارع الحائر المحيط بالروضة الحسينية
4ـــــ المدرسة الزينبية: سميت هذه المدرسة بهذا الاسم لوقوعها بجانب باب الزينبية, وكان أبرز من تولى مهمة التدريس فيها الشيخ جعفر الهر, والفقيه الكبير الشيخ محمد الخطيب, وهي من المدارس التي تولاها الشيخ محمد تقي الشيرازي وبعده نجله الشيخ عبد الحسين الشيرازي, وقد طالها الهدم أثناء فتح الشارع المحيط بالروضة الحسينية عام (1368هـ ـــــ 1948)م.
5ــــ المدرسة الهندية الكبرى: تشير وثيقة الوقف الخاصة بهذه المدرسة إلى أنها أُنشئت في أواخر القرن الثالث الهجري, وتقع بالقرب من الروضة الحسينية الشريفة في زقاق الزعفراني, وتتألف من طابقين يضمّان (22) غرفة, واحتوت أيضاً على مكتبة عامة عُرفت باسم (المكتبة الجعفرية), تقوم بنشاطات دينية منها إصدار نشرات وكراسات اسبوعية ودورية تعنى بـــ (أجوبة المسائل الدينية).
كما تأسس في هذه المكتبة (مكتب رابطة النشر الإسلامي), لغرض طبع ونشر الكتب والكراسات الدينية التوعوية وتوزيعها مجاناً على المسلمين في الدول الإسلامية البعيدة, ومن انجازات هذا المكتب أيضاً طبع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة من الكتب المهمة وتوزيعها في دول أندونيسيا والمغرب العربي وليبيا وبعض الدول العربية الأخرى ودول الخليج.
وكان يشرف على شؤون هذا المكتب السيد محمد كاظم القزويني, ومن أبرز خريجي هذه المدرسة الشيخ كاظم الرشتي والسيد محمد صادق القزويني, والسيد المرجع الكبير محمد الشيرازي, والسيد عبد الرضا الشهرستاني, والسيد مصطفى الاعتماد البهبهاني, والشيخ محمد تقي الاأصفهاني, والشيخ مهدي الرشتي شقيق متولي المدرسة الشيخ جعفر الرشتي.
6ــــ مدرسة البادكوبة (الترك): تأسست عام (1270هـ) وفقاً لوثيقة الوقف الخاصة بها, وتحتوي على ثلاثين غرفة, ومكتبة زاخرة بالكتب والمخطوطات القيمة, كما كانت تصدر منشورات إسلامية ثقافية منها (منابع الثقافة الإسلامية), وكان يتولى مهمة التدريس فيها العالم المحقق الشيخ محمد الشاهرودي, والشيخ محمد الكلباسي, وقد أزيلت هذه المدرسة عام (1980)م.
7ــــ مدرسة البقعة: تقع هذه المدرسة في شارع الإمام علي(ع), وتتألف من طابقين يضمّان عشرين غرفة, وأبرز من تخرجوا منها من العلماء الأعلام السيد محسن الكشميري, والشيخ عبد الرحيم القمي, والسيد مرتضى الطباطبائي, وكانت تصدر عنها مجلة (صوت المبلغين) وهي مجلة فكرية إسلامية, هُدمت هذه المدرسة عام (1980) م.
8 ــــ المدرسة السليمية: أسسها الحاج محمد سليم خان الشيرازي عام (1250هـ ــ 1834م), وخصص على نفقته الخاصة رواتب شهرية للطلاب الذين يواصلون فيها الدراسة بانتظام. وكانت هذه الأموال تنفق وتصرف تحت إشراف العالم الفقيه السيد أغا مير القزويني صاحب كتاب (الإمامة الكبرى), وقد جدد هذه المدرسة المرجع الديني السيد مهدي الشيرازي سنة (1370هـ ـــــ 1951م). وتقع هذه المدرسة في زقاق جامع الميرزا علي نقي الطباطبائي, وأبرز أساتذة هذه المدرسة العالم الفقيه المحقق الشيخ يوسف الخراساني, والعالم محمد طاهر البحراني, والمفكر الإسلامي الكبير الشهيد السيد حسن الشيرازي. ومن نشاطات هذه المدرسة إصدار مجلة إسلامية فكرية باسم (الأخلاق والآداب) ومجلة (ذكريات المعصومين)
9ــــ مدرسة الميرزا كريم الشيرازي: أنشئت عام (1287هـ ـــــ 1870م), وتنص لوحة تذكارية في مصلى هذه المدرسة على أنه أعيد بناؤه وتجديده من قبل السيد علي محمد الموسوي الشيرازي عام (1308هـ ــــ 1891م), وتقع هذه المدرسة في محلة العباسية الشرقية, وهي مدرسة كبيرة تولى إدارتها والتدريس فيها الخطيب الحسيني الشيخ عبد الزهراء الكعبي, والشيخ محمد علي الخليق.
10ــــ المدرسة المهدية: شيدها الشيخ مهدي بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كتاب (كشف الغطاء) سنة (1284هـ ـــــ 1867م), على غرار مدرسة مماثلة لها شيدها في النجف الأشرف. وتتألف هذه المدرسة من طابقين ويسكنها طلبة العلوم فيها بينهم من الدول الإسلامية, ومن أبرز أساتذتها الشيخ حسين البيضاني, والشيخ محمد شمس الدين, والشيخ علي العيثان البحراني, والشيخ عبد الحميد الساعدي.
11ـ المدرسة الهندية الصغرى: شيدت هذه المدرسة امرأة هندية صالحة تدعى (تاج محل) عام (1300هـ ــــ 1883م), وأوقفتها على السيد علي نقي الطباطبائي كما تنص على ذلك وثيقة الوقف الخاصة بها. وكان يسكنها طلبة العلوم الدينية من الأفغان والهنود وتقع في أحد الأزقة المتفرعة من سوق التجار القديم الذي يؤدي إلى شارع الإمام علي(ع) ومن أبرز أساتذة هذه المدرسة السيد محمد حسين الكشميري, والسيد مرتضى الطباطبائي, والسيد مرتضى الواجدي.
12ــــ مدرسة شريف العلماء المازندراني: تأسست بمبادرة من المرجع الديني السيد محسن الحكيم وجعلها وقفاً على طلبة العلوم الدينية في كربلاء والنجف عام (1384هـ). وتقع هذه المدرسة في زُقاق (كدا علي) المتفرع من شارع الإمام الحسين(ع) الرئيسي بجانب مرقد الشيخ شريف العلماء المازندراني, وهي ذات طابقين وتحتوي على (22) غرفة يسكنها طلبة العلوم من الدول الإسلامية.
13ــــ مدرسة ابن فهد الحلي: وتقع في شارع باب قبلة الإمام الحسين(ع) بجانب مرقد ومزار العالم الشيخ أحمد بن فهد الحلي الأسدي, وتحتوي على مكتبة عامة باسم (مكتبة الرسول الأعظم), وهي ذات طابقين ضمت أربعين غرفة, يسكنها طلبة العلوم الدينية, وجددت هذه المدرسة بأمر السيد المرجع محسن الحكيم عام (1383)هـ.
14ــــ مدرسة البروجردي: أسسها المرجع الديني الكبير السيد حسين البروجردي المتوفى عام (1380هـ), وكانت آية من آيات الفن المعماري والطراز الهندسي البديع, وتحتوي على عشرين غرفة, وكانت ذات نشاط علمي ديني واسع.
15ــــ مدرسة الإمام الباقر: شيدها السيد عماد الدين محمد طاهر البحراني عام (1381ه ــــ 1961م), وتقع في محلة باب الخان, وقد جعل مشيدها فيها مكتبة عامة, وكانت تصدر عنها الكتب والكراسات ذات الطابع الديني التثقيفي.
16ــــ مدرسة الخطيب: أنشئت عام (1357ه ــــ 1937م), على يد العالم الفقيه الشيخ محمد الخطيب, وتقع في محلة المخيم وكان يدرّس فيها مبادئ اللغة العربية والعلوم الدينية. 17ـــــ المدرسة الحسنية: مساحتها (400) متر وتضم (28) غرفة أسسها الشيخ حسن النائيني سنة (1388ه ــــ 1968م), وعُرفت هذه المدرسة بنشاطها الواسع في دراسة الفقه, والأصول, وعلم المنطق, والأخلاق, وتفسير القرآن, وقواعد اللغة العربية من نحو وصرف. كما عرفت هذه المدرسة بإقامة المراسيم والشعائر الدينية في شهر محرم الحرام وغيرها من مناسبات وفيات الأئمة وولاداتهم.
17ــــ مدرسة الإمام الصادق: وتقع في محلة العباسية الغربية وقد تولى عمادتها السيد مرتضى القزويني ثم السيد مرتضى الطباطبائي.
ولم تقتصر الدراسات العلمية والدينية في كربلاء على هذه المدارس رغم أنها كانت المحور الرئيسي الذي تدور حوله هذه العلوم, بل إن كربلاء كانت جذوة علمية متوهجة, فقد كانت حلقات الدرس والبحث والمناظرة قائمة على قدم وساق, وكانت تعقد في غرف وصالات صحن الروضتين الحسينية والعباسية وفي الحسينيات, والجوامع, وبيوت العلماء, والمراجع, والأساتذة. ورغم اندثار هذه المدارس بفعل السياسات مرة وأعمال التوسع أخرى, إلا أن هناك الكثير من المدارس الدينية التي لا تزال تمارس نشاطاتها الدينية والعلمية كمدرسة القائم ومدرسة الجواد وغيرها, وسنتناول هذه المدارس العلمية في استطلاع خاص.
اضف تعليق