إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، عالم وفقيه ومؤرخ اسلامي، عاش في القرن الثامن الهجري، وتتلمذ في المدرسة الفقهية المتشددة للفقيه ابن تيمية، مما ترك تأثيرا كبيرا عليه في بناء تصوراته الدينية والسياسية، والتي ستظهر جلية في تناوله أحداث التاريخ البشري والاسلامي على وجه الخصوص في كتابه أو تاريخه " البداية والنهاية". ورغم ان الاستاذ سهيل زكار الذي قام بضبط الكتاب ومراجعته وكتابة مقدمة له، يرى في ابن كثير مؤرخا وكاتبا معتدلا ومتوازنا، ويكتب بحيطة وحذر في أمهات مسائل هي موضع خلاف مستمر بين المسلمين، الا ان التحري الدقيق في ما كتب يظهر انحيازه الى تصورات مذهبية وفقهية خاصة بايديولوجيته المذهبية والكلامية، فلم يكن ابن كثير مؤرخا صرفا أو يكتفي بحدود اختصاصه كمؤرخ ناقل للحدث، وهي وظيفة المؤرخ الاخباري الذي يضع الرواية التاريخية وبنقلها المتعدد والمختلف في المتن والسند بين يدي المتلقي ويترك المقارنة والتحقيق والحكم له، مما يفسح المجال أكثر لمعرفة تحليلات التاريخ ووقائعه واحداثه، وهي طريقة شيخ المؤرخين المسلمين ابو جعفر الطبري. وبنفس الوقت يفسح موضوعية أوسع للمؤرخ الناقل للخبر ومجالا أوسع للنقل في الخبر، وهو مايفتقر اليه منهج "البداية والنهاية" لابن كثير.
فهو قد تناول التاريخ في بدايته ونهايته من وجهة نظر ايديولوجية –سنية، وأقحم فقهه وعلمه الديني وعقيدته الكلامية في تقويم التاريخ لاسيما منه الاسلامي، ولا تخلو من أهمية علمية محاولته تأطير الحدث التاريخي لاسيما القديم منه أو ما أصطلح عليه ابن كثير بعنوان "البداية" بالرواية الدينية–الاسلامية، لكنها تنزع في روايات التاريخ الاسلامي باتجاه المذهبية والعقيدة الكلامية السنية–الحنبلية.
ولعل ما يؤكد صيغة تاريخه الايديولوجية والكلامية السنية وهو ما يخرجه عن كونه مؤرخ حيادي وموضوعي، هو إضافته مصادر الحديث السني الى تاريخه من الصحاح، مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي والترمذي وكتب الحديث الاخرى مثل مسند احمد ابن حنبل ومستدرك الحاكم وحلية الاولياء لابي نعيم الاصفهاني وكتب اخرى في الحديث والسنن، واعتبارها مصادر رئيسية في روايته للتاريخ لاسيما منه الاسلامي، وهي تعكس وجهة نظره المذهبية في تقويم الحدث الاسلامي. ويجد الاستاذ زكار ان كتب الحديث والسنن هذه هي مصادره الرئيسية في تاريخه، ثم يضيف اليها مصادر المدونات التاريخية الكبرى في الاسلام، وبهذا يكون ابن كثير أول من أرسى قواعد أدلجة التاريخ وإعادة كتابته وفق ما تمليه عليه قواعده الكلامية وعقيدته المذهبية.
إعادة كتابة واقعة الطف وفق أيديولوجيا ابن كثير:
اتسم تاريخنا الاسلامي بمحاولاته المتكررة في إعادة كتابته، وأفتقر دائما الى محاولات إعادة قراءته، فإعادة كتابة التاريخ ظلت دائما ممارسات إيديولوجية قامت بها السلطة السياسية وبالمشاركة مع السلطة الدينية، من أجل تبرير المشروعية القائمة بالقوة والاكراه، وردعا للمعارضة السياسية والدينية في محاولاتها للمشاركة في صناعة وكتابة التاريخ الاسلامي. فاحتكار السلطة لكتابة التاريخ ظلت قائمة في الدولة الاسلامية، وتمشيا مع المبدأ السياسي والمعرفي القديم أن التاريخ يكتبه الاقوياء والمتغلبين، ولذلك لم تنشأ لدى المسلمين محاولات جادة في إعادة قراءة التاريخ الاسلامي الا في عصور متأخرة وتحديدا في القرن العشرين، وظهور التحقيق في الرواية التاريخية التي أخذت مع طه حسين منحى علمي–أكاديمي، ومع مرتضى العسكري منحى علمي–اسلامي.
وقد ذكر السيد مرتضى العسكري ان رواية التاريخ في الاسلام لم يشتمل عليها التحقيق مثلما كان عليه الحال في رواية الفقه الاسلامي الذي خضعت بقوة الى الدرس والتحقيق، وكان من يمارس هذا التحقيق في الفقه أو من ينشغل عن التحقيق في التاريخ هم علماء الاسلام وفقهائه، ونرى ان ابن كثير قد سعى الى إعادة كتابة التاريخ، لاسيما وان إعادة كتابة التاريخ تختلف جذريا عن مجرد نقل الخبر وروايته وإبلاغه بموضوعية وحيادية الى المتلقي الذي تناط به مسؤولية الحكم والتقييم وهي طريقة المؤرخين المسلمين، بل ان طريقة إعادة كتابة التاريخ تعتمد الحذف في المتن والحذف أو التدليس في السند وتقديم خبر ورواية الموالي لعقيدة المؤرخ الدينية على رواية او خبر المخالف لعقيدة هذا المؤرخ الدينية. وهذا ما صنعه ابن كثير في روايته التاريخية لواقعة الطف، بل ان روايته جاءت وفقا لمنظوره الديني والايديولوجي المذهبي. ان الحذف على مستوى المتن والتدليس على مستوى السند في رواية الطف في كتاب "البداية والنهاية" هما ابرز خصائص الرواية (الكثيرية) لواقعة الطف...
ولانه فقيه محدث فانه يطبع روايته التاريخية بالحديث، ولذلك يبدأ روايته في واقعة الطف في ترجمة الامام الحسين بقوله (ولنبدأ... بذكر مناقبه وفضائله) لكنه يعمد الى حذف او عدم ذكر أي حديث في مناقب الحسين بن علي أو فضائله على طول هذا الفصل ونهايته، وهو حذف على مستوى المتن ويكتفي في ترجمته للامام الحسين بذكر أوصافه وشبهه بالنبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، ورغم أنه يقول (وسنذكر ماكان رسول الله يكرمهما به "الحسن والحسين" وماكان يظهر من محبتهما والحنو عليهما) الا انه لم يذكر شيئا من ذلك في روايته او يتحدث عنه ولو بحديث مختصر، وهو اذ لم يذكر حديثا في مناقبه وفضائله فانه قد ضعف حديث (وأما الحسين فله جرأتي وجودي) معقبا عليه بانه ليس بصحيح.
واذا كانت الصحبة للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) من الفضائل والمناقب، وقد شمل بها الكلام السني كل الذين عاشوا في عصر النبي ورأوه، فان ابن كثير يظن بالصحبة على الحسين بن علي، بل يخلي الحسين منها، ويرى في قول احمد ابن حنبل في الحسين انه تابعي ثقة قول غريب فهو يرى بان يكتفي بقوله (انه تابعي بطريق أولى) وهنا نشهد ممارسة تمويهية اختزالية يلجأ اليها ابن كثير من أجل إقصاء الحسين بن علي (عليهما السلام) من قائمة الصحابة عبر اختزاله بوصفه (تابعي) ثم التشكيك بوثاقته باعتراضه على توثيق ابن حنبل له.
وهو في محاولته إعادة كتابة تاريخ الاسلام واعتماده طريقة الحذف، فانه يحذف صفة الثقة عن الحسين بن علي (عليهما السلام) الواردة في عبارة ابن حنبل، وابن كثير يحذف الصحبة للحسين في إعادة كتابة تاريخ الحسين بن علي (عليهما السلام)، ويبرر ذلك من مبدأ عمره الشريف اذ يقول (وقد أدرك الحسين بن علي من حياة النبي خمس سنين أو نحوها) لكن ابن عباس رغم انه أصغر عمرا من الحسين قد عده علماء مدرسة ابن كثير الفقهية من رجال الصحابة بما فيهم ابن كثير ايضا.
ويبدو القصد الايديولوجي واضحا في قول ابن كثير (والمقصود ان الحسين عاصر رسول الله وصحبه الى ان توفي وهو عنه راض ولكنه كان صغيرا) فالمعاصرة والصحبة والرضا عنه لا تعدوا ان تكون غير ذات قيمة وكلها تستثنى في قيمتها ومرجعيتها الدينية بعبارته "ولكنه كان صغيرا". ويبدو واضحا سعي ابن كثير في حذف الصحبة من الحسين بن علي (عليهما السلام) باعتبار ما تشكله من مرجعية دينية وفقهية في العقيدة السنية تمنحه المشروعية افتراضا في مواجهة السلطة الاموية، وهي ما تقف ايديولوجيا ابن كثير الدينية حائلا دونها. انه سعي محموم في سلب كل مشروعية للمعارضة الدينية والسياسية في مواجهة السلطة، ذلك المبدأ الذي رسخه وابتدعه إمام مذهبه أحمد ابن حنبل، وتتم إعادة كتابة التاريخ السياسي في الاسلام عند ابن كثير وفق هذه المقولة...
إنتقائية المصادر والتدليس فيها
لان تاريخ ابن كثير كتب وفق اغراض ايديولوجية فانه يعتمد على انتقائية خاصة في مصادره تستجيب الى ايديولوجيته الدينية في تأثيم المعارضة للسلطة الاموية، وتتفق تلك المصادر مع وجهة نظره التاريخية، واذا كانت روايات المؤرخين المسلمين الكبار تصدر عن رواية ابي مخنف الذي اختص روائيا وتاريخيا برواية خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) من المدينة الى مكة ومنها ثم الى الكوفة ورواية واقعة الطف، وكذلك اعتماد ابن كثير انتقائيا على رواية ابي مخنف، هذه الا انه له مصادر اخرى في رواية خروج الحسين وهي تتفق وايديولوجيته المذهبية، وتوفر له مغزى كبير في توهين خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) وقصده الديني وهي تناقض روايات ابي مخنف في سرد وقائع الكلام والحديث الذي دار بين الحسين وجماعة من كبار المسلمين والصحابة وهم يشيرون على الحسين ترك العزم على الخروج الى الكوفة.
ولئن بدا ابا عبد الله الحسين في سرد رواية ابي مخنف قويا بموقفه متمسكا برأيه مستقلا بقراره مقدرا لنصيحة القوم وحرصهم على شخصه ومكانته سواء في كلامه مع ابن عباس او ابن عمر او ابن مطيع العدوي او ابن الحنفية او ابن جعفر، فان روايات ابن كثير وهي روايات بلا سند متصل او منقطع وانما التدليس في سندها ظاهر جلي مما يجعلها بقوة خاضعة الى التشكيك وعدم صحة النقل في الخبر، وتجعل من اليسر والسهولة بمكان إعادة كتابة التاريخ، لاسيما وان التاريخ الاسلامي يعتمد على الرواية وليس الوثيقة في سرده وتوثيقه. ورواية ابن كثير في تدليسها وفي مغزاها لاتدع للحسين ابن علي (عليهما السلام) أي حجة في خروجه، وانما تحمله مسؤولية خروجه ومواجهة مصيره بشكل غير مدروس وغير مخطط له، بل ان التغرير بالنفس وعصيان النصح وتجاهل مصير الامة والجماعة وقلة معرفته بوقائع الامور هي ما تؤطر شخص الحسين ومواقفه في رواية ابن كثير، وكل ذلك من اجل تبرير قتله وسفك دمه وتبرئة السلطة الاموية من مسؤولية القتل وسفك الدم التي بدت مضطرة اليه في حصيلة رأي ابن كثير..
فقد ذكر ابن كثير عمن (قالوا) ولم يحدد أسماء اولئك الرواة والمحدثين، وهو ما يعرف بالتدليس في الحديث، مما يفقده موضوعية وعلمية المنهج الاخباري القديم عند المؤرخين القدامى. فهو يروي مباشرة وبلا سند " أن ابن عباس قال له اذكرك الله ان تغرر بنفسك وقال له ابي سعيد الخدري اتق الله في نفسك والزم بيتك ولا تخرج على امامك، وقال ابو واقد الليثي: فناشدته ان لا يخرج في غير وجه خروج انما خرج يقتل نفسه، وقال له جابر بن عبد الله: اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض،، فعصاني... وقال سعيد ابن المسيب لو ان الحسين لم يخرج لكان خيرا له". وقد انفرد ابن كثير برواية تلك الحوارات بين اولئك الناصحين وبين الحسين بن علي (عليهما السلام) بل ان روايات الطبري وابن الاثير وهي بالسند عن ابي مخنف جاءت بخلاف ما ذهب اليه ابن كثير في روايته.
ان الاكثر استهجانا في الاستخفاف بنقل الوقائع والاحداث وهي سمة إعادة كتابة التاريخ أيديولوجيا من خلال الرواية المدلسة، هي رواية ابن كثير ان يزيد ابن معاوية كتب الى ابن عباس يدعوه الى اقناع الحسين بعدم الخروج والكف عن السعي في الفرقة ويتبنى ابن كثير مضمون هذه الرواية دينيا وايديولوجيا.
وخاتمة القول ان ابن كثير سعى في اعادة كتابة التاريخ في واقعة الطف، الى تبرئة يزيد ابن معاوية من أي مسؤولية شرعية في قتل الحسين ابن علي (عليهما السلام) بل خلاصة رأيه أن الحسين بن علي يتحمل مسؤولية مباشرة في قتله وآله، يلمح لها ابن كثير احيانا ويصرح احيانا بها بلا مواربة، وهي تعكس وجهة النظر الاموية منذ ان قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) في يوم العاشر من المحرم سنة 61 للهجرة....
اضف تعليق