وعى علما عُجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً على دينه، حريصا على العلم، وكان يكثر السؤال، فيُعطى ويَمنع، أما ان قد ملئ في وعائه حتى امتلأ.. كان أبو ذر للرسول (ص) ملازما وجليسا، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا، وللقيام على ما استفاد منه أنيسا، سأله عن الأصول والفروع...
لم يأمر النبي (ص) أبا ذر (رض) باللحاق بقومه، ودعوتهم الى الاسلام، إلا لأنه توسم فيه صفات الكمال، لما يتمتع به من روح عالية، وثبات لا يتزعزع، وتفان في العقيدة. فوجده أهلا لأن يقوم بدور من هذا النوع، والاسلام يمر بأدق المراحل وأخطرها.
نحن نعلم أن النبي صلوات الله عليه كان ـ في بدء رسالته المباركة ـ يحتاج الى مزيد من المؤيدين والأعوان في داخل مكة، وفي خارجها. في داخل مكة، لتقوية الصف فيها، وليمنع نفسه من قريش! وفي خارج مكة، لنشر مبادئ هذا الدين الجديد الحنيف، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الأفراد المسلمين كي ينهض بهذا الأمر جهرة وعلى الصعيد العام، وتكون لديه القوة الكافية لصد أعدائه الذين يتربصون به الغيلة ويخططون للقضاء عليه وعلى الرسالة في مهدها.
لقد آثر النبي (ص) إيفاد أبي ذر الى قومه بني غفار، على بقائه معه، لثقته العالية بأنه سينجح في نشر الاسلام بينهم.
وهذا ما حصل، فقد نجح أبو ذر في ذلك، فقد أسلم نصف قومه على يده، وأسلم النصف الباقي عند مجيء النبي (ص) الى المدينة كما اسلفنا.
وبقي أبو ذر بينهم فترة طويلة. لم يحضر في خلالها غزاة بدر ولا أحد، ولا الخندق (كما تقول الروايات)، بقي بينهم في خندق الجهاد الآخر، حيث كان يفقههم في دينهم، ويعلمهم أحكام الاسلام، وهذا جهاد يحتاج الى عزيمة وحكمة ودراية ونفس طويل.
وليس من الوارد في ذهن من يعرف أبا ذر، أن يعتقد بتخلفه عن هذه الغزوات الثلاث بمحض ارادته واختياره، بل من المؤكد أن تخلفه عنها، وبقاؤه في قومه إنما كان بإيعاز من الرسول الكريم (ص). والجهاد بالسيف مقرون مع الجهاد في اللسان، بتعليم الناس أحكام دينهم، وتفقيههم بها. بعد تعلمها من رسول الله (ص).
قال تعالى: (وما كانَ المؤمنونَ لِينفورا كافِّة فَلولا نَفَر مِن كُل فِرقة مِنهم طَائِفَة لِيَتفقَّهوا في الدِّين وليُنذِروا قَومَهم اذا رَجِعوا اليهم لَعَلَّهم يَحذرون) 9 ـ 122.
قضى أبو ذر، فترة بين بني قومه، ثم عاد ليصحب النبي (ص) ويأخذ عنه العلم والمعارف والحكمة.
وقد حظي من رسول الله (ص) بالاهتمام الكبير، والعناية الخاصة. فقد كان رسول الله (ص) يبتدئه بالسؤال والكلام اذا حضر، ويسأل عنه اذا غاب.
فعن ابي الدرداء قال: «كان النبي (ص) يبتدئ أبا ذر اذا حضر، ويتفقده اذا غاب» (1).
ويظهر من بعض الأخبار انه (ص) كان يمازحه، كما كان هو يمازح النبي صلوات الله عليه وهذا إن دل على شيء، فانما يدل على مكانته الخاصة لدى النبي (ص).
فقد روي انه قدم الى المدينة، فلما رآه النبي قال له: « أنت أبو نملة!
فقال: أنا أبو ذر.
قال (ص): نعم، أبو ذر (2).
وعن الصادق (عليه السلام)، قال:
طلب أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقيل إنه في حائط (بستان) كذا وكذا.
فتوجه في طلبه، فوجده نائماً، فأعظمه أن ينبهه. فأراد أن يستبرئ نومه من يقظته، فتناول عسيباً يابساً، فكسره ليسمعه صوته. فسمعه رسول الله (ص) فرفع رأسه فقال:
يا أبا ذر، تخدعني. أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي، كما أراكم في يقظتي! إن عينيَّ تنامان، ولا ينام قلبي (3)!!
وكان في صحبته للنبي (ص) حريصاً على اقتباس العلوم، فكان يغتنم الفرصة في ذلك، ويحدثنا هو عن نفسه، فيقول:
لقد سألت النبي (ص) عن كل شيء حتى سألته عن مس الحصى (في الصلاة)، فقال: مسَّه مرة، أو دع (4).
وقال: لقد تركنا رسول الله (ص) وما يحرك طائر جناحيه في السماء، إلا ذكَّرنا منه علما (5).
وقال: دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله (ص) في مسجده، فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله (ص)، وعلي (عليه السلام) جالس الى جانبه، فاغتنمت خلوة المسجد، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أوصني بوصية ينفعني الله بها.
فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، واكرم بك يا أبا ذر، إنك منا أهل البيت.. (6) وقد ذكرت وصيته بكاملها في آخر الكتاب، وهي من عظيم كلامه (ص)، وتصلح أن تكون بذاتها موضوعاً مستقلا يدرس.
وفي ميدان معارفه وعلومه التي اكتسبها من النبي (ص) نذكر ما قاله أمير المؤمنين علي (ع) حين سئل عن أبي ذر. فروي أنه قال في ذلك:
وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه، فلم يخرج شيئاً منه (7). وانما أوكأ أبو ذر على ذلك العلم، ومنعه عن الناس، لأنه لا تحتمله عقولهم.
وفي رواية أخرى عن علي (عليه السلام)، فيه:
«وعى علما عُجز فيه، وكان شحيحاً حريصاً على دينه، حريصا على العلم، وكان يكثر السؤال، فيُعطى ويَمنع، أما ان قد ملئ في وعائه حتى امتلأ » (8).
وجاء عن كتاب حلية الأولياء: في هذا الصدد:
كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه، للرسول (صلى الله عليه وآله) ملازما وجليسا، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا، وللقيام على ما استفاد منه أنيسا، سأله عن الأصول والفروع، وسأله عن الايمان والاحسان، وسأله عن رؤية ربه تعالى، وسأله عن أحب الكلام الى الله تعالى، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء، أم تبقى؟ وسأله عن كل شيء حتى مس الحصى في الصلاة (9). الخ.
وقد منحه النبي (ص) أوسمة عالية أهمها:
قوله (ص): ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر. ومن سرّه أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم، فلينظر الى أبي ذر (10).
وقد سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن صحة هذا الحديث، فصدَّقه.
ففي معاني الأخبار بسنده، عن رجل. قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أليس قال رسول الله (ص) في أبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ ما أظلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة، أصدق من أبي ذر؟
قال: بلى.
قال: قلت: فأين رسول الله، وأمير المؤمنين؟ وأين الحسن والحسين؟
قال، فقال لي: كم السنة شهراً؟
قلت: إثنا عشر شهراً.
قال: كم منها حُرُم؟
قال: قلت: أربعة أشهر.
قال: فشهر رمضان منها؟
قال: قلت: لا.
قال (ع): إن في شهر رمضان ليلة أفضل من ألف شهر! إنَّا أهلُ بيت لا يقاس بنا أحد! (11).
في غزوة تبوك
في غزوة تبوك، وقف بأبي ذر جمله، فتخلف عليه، فقيل: يا رسول الله: تخلف أبو ذر.
فقال (ص): ذروه، فان يك فيه خير، فسيلحقه الله بكم، فكان يقولها لكم من تخلف عنه.
فوقف أبو ذر على جمله، فلما أبطأ عليه، أخذ رحله عنه، وحمله على ظهره، وتبع النبي (ص) ماشياً.
فنظر الناس، فقالوا: يا رسول الله، هذا رجل على الطريق وحده.
فقال رسول الله (ص): كن أبا ذر!
فلما تأمله الناس، قالوا: هو أبو ذر!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده ويشهده عصابة من المؤمنين (12).
مقتبس من كتاب: أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني/الشيخ محمد جواد الفقيه
اضف تعليق