الرشيد كان حاقدا على الطالبيين بعامة، وعلى الامام بخاصة، كما تحدثنا بذلك النصوص المتواترة في أكثر من موقع وموضع حتى لا يدري البحث من أن يبدأ. كان الامام طيلة أيام الرشيد شديد الحذر، وكانت الرقابة الصارمة من حوله تقضي بابتعاده عن أوليائه وأصحابه، حتى أن تلامذته...
بقلم: الدكتور محمد حسين علي الصّغير/مقتبس من كتاب الإمام موسى بن جعفر (ع) ضحية الإرهاب السياسي
ولي هارون الرشيد الملك في ربيع الامام سنة 170 ه، ومات لليال خلت من جمادي الآخرة سنة 193 ه، وقد امتدت خلافته ثلاثة وعشرين عاما (1).
وقد اتسعت رقعة الدولة الاسلامية في عصره اتساعا عريضا، فضربت بأطنابها غربا وشرقا وجنوبا وشمالا، فمن حدود البحر الأبيض المتوسط ومشارف البحر الأحمر حتى افريقيا، ومن مضايق البسفور وبحر قزوين حتى أزبكستان وبخاري وسمرقند، ومن شواطيء الخليج ومضارب الهند والسند حتى تخوم الصين. يضاف الى هذا كله الجزيرة العربية من أقصاها الى أدناها، وهي مساحات واسعة اشتملت على نصف العالم تقريبا، حتى أثر عنه مخاطبا السحابة «حيثما تمطرين ففي ملكي..».
وقد صدق بتعبيره عن سلطانه بأنه ملك، فهو من أعتي الملوك وان تظاهر برقة القلب، وهو من أقسي الجبابرة وان بدا بطيبة البريء، وهو من أترف الحاكمين وان تجلبب برداء الزهد واظهار الورع، وهو من المخططين البارزين لاقامة السلطة بقوة الحرب، وحماية الملك بسفك الدماء.
وقد كان القلقشندي مهذب التعبير في رواية خطابه للسحب: «اذهبي الي حيث شئت بأنني خراجك» (2).
وقد حكي هذا التعبير ما في قلب الرشيد من الاعتداد بالمال والخراج، لا بالاسلام ودولته، فأحتجان الأموال، وتكدس الأرصدة هو الذي يوفر له حياة البذخ والعبث، وهو الذي يحقق له موائد الفسق واللهو والطرب، والسيطرة على المال من المهمات الأساسية في ملكه، يستعين به في شراء الضمائر، والقضاء على المعارضين، والترفيه عن ولاته وبطانته وحواشيه وجواريه، والاغداق على المغنين والمخنثين والقيان.
يقول الأستاذ باقر شريف القرشي:
«وجبي له الخراج من جميع الأقاليم الاسلامية، وصارت عاصمته بغداد عروس الدنيا، ومستودع أضخم بيت للمال في العالم... وانتشر فيها الثراء الفاحش والتضخم النقدي عند التجار والموظفين والندماء والمطربين والمجان، وتناثرت فيها القصور الرائعة التي شيدت على طراز هندسي جميل مزيج من الذوقين العربي والفارسي، وصارت بغداد بما فيها من الحدائق الغناء زينة الشرق، وأعظم عاصمة لأهم امبراطورية شاهدها التأريخ» (3).
ولا تحسبن هذه الامبراطورية جاءت لتطبيق مباديء الاسلام أو تحكيم شريعة السماء، وانما استغلت استغلالا فظيعا للاستعلاء في الأرض، وافترضت لتلبية رغبات المجون العابث، فالشعب المسلم على قارعة الطريق يتشكي البؤس والحرمان وفقد الحياة الكريمة، وقصور الخلفاء تعج بالقيان والجواري والغلمان، وأنفقت واردات الدولة في تشيد القصور الفارهة، وبددت الميزانية العامة في اغراق أتباع النظام بالأعطيات الضخمة، واتخام وعاظ السلاطين بالهبات الطائلة، وكان لسوق المجان والفسوق نصيب مما قرره السلطان، وكانت الثروات اثرة بين هؤلاء وهؤلاء. وقد قدر الدكتور عبدالجبار الجومرد واردات الدولة بـ «مليارين ومائتين وعشرين مليون دينارا، وتسعمائة وستين ألف دينار» (4).
وهذا القدر العظيم في الميزانية يجعلها أضخم ميزانية في العالم آنذاك بالنسبة للقيمة النقدية المتداولة وقيمة الأسعار، فقد ذكر الدكتور أحمد أمين الأسعار في الأسواق، فذهب أن الكبش يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، وأجرة البناء الأستاذ بخمس حبات، والحبة ثلث الدرهم، والدانق سدس الدرهم (5).
وفي هذا الضوء كان ما أبداه الجهشياري دقيقا حينما اعتبر واردات الدولة عبارة عن: خمسمائة مليون درهم ومائتين وأربعين ألف درهم (6).
وذلك بالدرهم الفضي المتعارف عليه في ذلك العصر.
فأين ترى مصرف هذه الايرادات الضخمة من قبل السلطان؟
انّ هذه الايرادات الكبرى لم تكن لتصرف في وجوه البر والاحسان، ولا لنشر تعاليم الاسلام، ولا لإعمار البلاد، ولا لتلبية احتىاج البائس (صفحه 160) الفقير، ولا في وجوهها المشروعة الا لماما، وانما كانت تبذر في سبيل الرغبات الخاصة، والمسلمون بين جائع وعريان، وشريد وطريد، والعلماء في فقر وفاقة واذلال، وقادة الفكر والمعرفة في بؤس وشقاء، وعامة الناس كالعبيد في ذل واضطهاد، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، الا تلك الطبقة الأرستقراطية من الولاة وأبناء السلاطين وفقهاء البلاط، فإنها في
نعيم من العيش الرغيد!! وهذا المال الذي هو مال المسلمين زكاة وخراجا، يتقاسمه المغنون والجواري والغلمان في هبات جزيلة متتابعة، فقد غني دحمان الأشقر الرشيد فطرب لذلك وقال له: تمن علي، فتمني على الرشيد ضيعتين واردهما أربعون ألف دينار فأعطاه اياهما (7).
وأنشده أبوالعتاهية أبياتا، غناها للرشيد ابراهيم الموصلي، فأعطي كل واحد منهما مائة ألف درهم، ومائة ثوب (8) وغناه يحيي المكي فأطربه، فقال الرشيد: أعطوه ما في ذلك البيت، فكان فيه ما قيمته خمسون ألف درهم (9) وغناه يحيي المكي أيضا بيت من الشعر، فسكر عليه حتى أمسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم (10).
وغني اسحاق الموصلي للرشيد بأبيات وصف فيها بستانا بظهر الحيرة قيمته أربعة عشر ألف دينارا، فأمر له الرشيد بأربعة عشر ألف دينار، فاشتراها (11).
وغناه ابراهيم الموصلي صوتا من مختاراته، فطرب له الرشيد طربا شديدا، واستعاده عامة ليله... فأمر له بمائتي ألف درهم (12).
وغناه ابراهيم الموصلي بعد أن أطلقه من الحبس بهذا البيت:
تضوع مسكا بطن نعمان
اذ مشت به زينب في نسوة خفرات
فأمر له بثلاثين ألف درهم (13).
وهذا غيض من فيض سقناه على سبيل المثال لتبذير أموال المسلمين على الغناء ومجالسه فحسب، فما بالك في اعداد تلك المجالس وتهيئة مرافقها ومتطلباتها وما يقتضي لها من الأشربة والأنبذة وآلات الطرب والفرش الوثير والوسائد والستائر، وما يتبع ذلك من الانفاق لدي اصطفاف الموائد؟؟
أما الجواري وشراؤها، فقد بلغ حد الاسراف في الأسعار، والمغالاة في استزادة منها، وأسوق اليك هذا النموذج في عدد ما في القصر لنوع خاص من الجواري تشرف عليه زوجته أم جعفر، وقد أقبلت في زهاء ألفي جارية من جواريها!!
وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس، وكان قد استقل بجارية عنها في غاية الجمال والكمال!! فأقبلت جواري أم جعفر في قبال جواريه الأخريات، وهن في لحن واحد:
منفصل عني...
وما قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن
نويت بعدي أن تصل
فطرب الرشيد، وقام على رجليه حتى استقبل أم جعفر قائلا: لم أر كاليوم قط.
ثم نادي مسرورا الخادم قائلا: يا مسرور لا تبقين في بيت المال درهما الا نثرته، فكان مبلغ ما نثره يومئذ: ستة آلاف ألف درهم (14).
واذا لم يكن هذا عبثا بأموال الدولة فكيف يكون العبث؟
ومع هذا كله، وفوق هذا كله، فان الرشيد يسمي أمير المؤمنين!! فيالله وللمسلمين، فأي أمير هذا الذي يعيش بين خابية وزق، ويحيا بين قينة ومغنية، ويحظى بجارية وجارية، ويشتمل قصره الملكي العامر على آلاف الجواري من مختلف الجنسيات!!
ولك أن تعجب من بخله على طبقات الشعب، ولك أن تعجب من سخائه علي المجان والمخنثين ومرتزقة الشعراء، فقد كان يجيز بعض الشعراء في قصائدهم عن كل بيت بألف دينار (15) وأعطي لأعرابي من باهلة أنشده بيتين ذكر فيهما ولديه الأمين والمأمون مائة ألف درهم (16).
وكان أشجع السلمي ثقيلا على الرشيد، فأنشده قصيدتين طرب لهما الرشيد، فقال له:
يا أشجع؛ لقد دخلت الى وأنت أثقل الناس على قلبي، وانك لتخرج وأنت أحب الناس الي.
قال أشجع: ما الذي أكسبتني هذه المنزلة؟
قال الرشيد: الغنى؟ فأسأل ما بدا لك.
قال: ألف ألف درهم، قال الرشيد: ادفعوا له (17).
هذه الهبات الضخمة لشعراء مغمورين؛ فما بالك في شعراء الطبقة الأولي؟
أما تبذير الرشيد واسرافه في شراء الجواهر والأحجار الكريمة، والقلائد الثمينة فما لا رأت عين ولا سمعت اذن، فكان خاتمه بمائة ألف دينار (18).
وقد اشتري جواهر معدودة بمائتي ألف دينار، فوهبها لدنانير البرمكية (19).
وكان عند الرشيد قضيب زمرد أطول من ذراع، وعلى رأسه تمثال طائر من ياقوت أحمر لا تقدير لثمنه نظرا لنفاسته، وقد قوم الطائر وحده بمائة ألف دينار (20).
وقد شاركته السيدة زبيدة بملحظ الاسراف في الجواهر وسواها... فأمرت أن يتخذ لوصائفها من الدر المثقوب بالتصليب، ثم اتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر تلبسها في قصرها، واتخذت سبحة من يواقيت رمانية كالبندق، اشترتها بخمسين ألف دينار (21) واشترت غلاما يضرب على العود بثلاثمائة ألف درهم (22) وغناها ابن جامع هي والرشيد بثلاثة أبيات، فأمرت زبيدة أن يدفع لابن جامع المغني عن كل بيت مائة ألف درهم (23).
ووهبت زبيدة لمنصور النمري جوهرة لوصفه مدينة السلام، اغراءا بالرشيد للرجوع اليها، اذ كان يستطيب المقام بالرقة، فأرادت عودته لبغداد، فعمل النمري بيتين استحسنهما الرشيد، فوهبت له جوهرة، ثم دست من يشتريها منه بثلاثمائة ألف درهم (24).
وصنعت لها بساطا من الديباج جمع صورة كل حيوان من جميع الأجناس، وصورة كل طائر من الذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، أنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار (25).
يضاف الى هذا العبث بذخ البرامكة المستطير، واسرافهم في العطاء للشعراء والزعماء والأتباع ووعاظ السلاطين، حتى عرف عنهم أنهم من الأجواد، فبذروا واردات الدولة في مآربهم وأغراضهم وشهواتهم وملذاتهم، وما يكسبهم شهرة وصيتا، عدا موائدهم العامرة بأنواع الأشربة والأطعمة، يضاف اليها أندية الخمرة والطرب.
واذا عدنا الى الرشيد رأيناه مولعا بالخمر، ويدعو خواص جواريه اذا أراد أن يشرب، وربما تولي السقاية بنفسه (26).
وقد ذكر السيوطي عن الذهبي أن الرشيد كان صاحب أخبار وحكايات في اللهو واللذات المحظورة والغناء (27).
وللتأريخ والحقيقة المرة، فان الرشيد لم يكن ذا حراجة في دين، ولا أثر من تقوى لديه، وانما هو الرياء المقنع بالدجل السياسي، فقد أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك، قال:
«لما أفضت الخلافة الى الرشيد، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي. فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك؛ ان أباك قد طاف بي. فشغف بها، فأرسل الى أبي يوسف فسأله: أعندك في هذا شيء؟
فقال: يا أمير المؤمنين؛ أو كلما ادعت أمه شيئا ينبغي أن تصدق؛ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة».
قال ابن المبارك: «فلم أدر ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه؟
أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين!!
أو من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال: اهتك حرمة أبيك، واقض شهوتك، وصيره في رقبتي» (28).
هذه صورة اجمالية عجلي من صور هارون الرشيد في البذخ والاسراف، وسأثبتك صوره في القتل والارهاب، وصوره في الغدر والفتك، فما يغني عنه دفاع ابن خلدون وعده له من أئمة المسملين، وما يغني مناصرة الدكتور عبدالجبار الجومرد له، فنفي عنه شرب الخمر، ولعب النرد، وما الى ذلك مما هو مستهتر به (29).
بينما لم نجد عصرا بلغ به العبث والتهتك الذروة كعصر الرشيد، وقد ساد به اللهو والمجون فغمر البلاد وأفسد العباد، وعمت المحرمات الشرعية ديار الاسلام وأقاليمه بستار رقيق من الادعاء الديني.
يقول العلامة الدكتور مصطفي جواد (رحمه الله):
«ولو قدر لهارون الرشيد أن يبقي على أريكة الخلافة أكثر مما بقي لانحطت الدولة الاسلامية الى مستوي سحيق أقبح الانحطاط» (30).
ومهما يكن من أمر، فقد بدأ هارون الرشيد خلافته «باخراج من كان في مدينة السلام من الطالبيين الى مدينة الرسول (صلي الله عليه وآله)».
وكان هذا الاجراء دقيقا في نظرته السياسية، فحكم الرشيد ببغداد بحاجة الى الاستقرار السياسي، ولابد أن يصفو الجو من المعارضة، وأن تخلو الساحة من الرافضين لمظالم الحكم، وهذا التفكير لم يكن بعيدا عن ذهنية الرشيد الأمنية، ولابد له من تحقيق ذلك، فبث الرصد والعيون لتتبع أخبار الطالبيين، وتعقب تحركهم النضالي ضد النظام، بما أذكى شرارة البغضاء والضغينة بين الحيين، حتى استطال الظلم الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) وهو غير طامح في سلطان، ولا طامع في عرش، ولامتهالك على حكم، وكل ما يهمه هو احياء السنة واطفاء البدعة.
ومع الاعراض الواضح للإمام عن مظاهر الأبهة والملك، الا أن الرشيد قد تحين الفرص وافتعل الحجج لاعتقال الامام مرة بعد مرة، وعرضه على السجون تارة بعد أخرى.
ومما يحز في النفس أن الرشيد قد يستوقف الامام للاستجواب والمساءلة الغليظة الجافة دون مسوغ شرعي أو عرفي، حتى استقر رأيه على القضاء عليه.
وربما قيل ان الرشيد باديء ذي بدء «أكرم الامام وعظمه» (31) ولكن ذلك ان حصل فهو نوع من الدجل السياسي المفضوح، على أننا لم نجد شاهدا واحدا يؤكد اكرام الامام واعظامه من قبل الرشيد، بلي قد تقهره الحقيقة فيعترف بما للإمام من فضل وعلم وقيادة.
ومن الوضوح بمكان أن الرشيد كان حاقدا على الطالبيين بعامة، وعلى الامام بخاصة، كما تحدثنا بذلك النصوص المتواترة في أكثر من موقع وموضع حتى لا يدري البحث من أن يبدأ.
كان الامام طيلة أيام الرشيد شديد الحذر، وكانت الرقابة الصارمة من حوله تقضي بابتعاده عن أوليائه وأصحابه، حتى أن تلامذته ورواة حديثه حينما يروون احاديثه وأفكاره، قد يتجنبون التصريح باسمه الشريف، فيقول أحدهم: حدثني الرجل، وكتبت الى الرجل، وأجاب الرجل، وقد يذكر بكناه فيقال: قال أبو الحسن، وتحدث أبو ابراهيم، وقد يعبر عنه بما اشتهر من ألقابه عند خاصته، فيقال: سمعت العبد الصالح، وقال السيد، وتحدث (صفحه 167) العالم، وروي الكاظم، وأمثال هذا، ويدل بوضوح على مدى الرصد الذي يعاني منه الامام وشيعته، ولعل ذلك كان بوصية منه (عليه السلام) حفظا لأوليائه من الخطر وتجنبا لمواطن التهم باستعمال الرموز الدالة عليه دون التصريح بالاسم الرفيع درءا لمكائد هؤلاء الطغاة.
وكان الطالبيون قد استتروا عن الرشيد حذر القتل وغياهب السجون، وذلك عقب العنف الثوري الذي صارع الحكم، وكانت رده فعل الرشيد قاسية في اجراءات نفذت فيها الأحكام العرفية بأبشع صورها، وكنموذج عليها ما رواه عبيدالله البزاز النيسابوري، قال: «كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت اليه في بعض الأيام، فبلغه خبر قدومي فاستحضرني للوقت... وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه... أحضرت المائدة، وذهب عني أني صائم وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان ولست بمريض، ولا بي علة توجب الافطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك... فقال: ما بي علة توجب الافطار، واني لصحيح البدن ثم دمعت عيناه وبكي!!
فقلت له: ما يبكيك أيها الأمير؟
فقال: «أنفذ الي هارون الرشيد... أن خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم!! فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء بي الى بيت بابه مغلق ففتحه، فاذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منها، فاذا فيه عشرون عليهم الشعور والذوائب، شيوخ وكهول وشبان مقيدون. فقال لي: ان أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم من العلوية من ولد علي وفاطمة، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه حتى أتيت على آخرهم، ثم رمي أجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر. (صفحه 168) ثم فتح باب بيت آخر، فاذا فيه عشرون نفسا من العلوية من ولد علي وفاطمة مقيدون. فقال لي: ان أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر حتى أتيت على آخرهم. ثم فتح باب البيت الثالث، فاذا به مثلهم عشرون نفسا من ولد علي وفاطمة مقيدون عليهم الشعور والذوائب.
فقال لي: ان أميرالمؤمنين يأمرك أن تقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج الي واحدا بعد واحد فأضرب عنقه، فيرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفسا منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا مشوم!! أي عذر لك يوم القيامة اذا قدمت على جدنا رسول الله (صلي الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمة؟؟
فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر الي الخادم مغضبا وزبرني، فأتيت على ذلك الشيخ أيضا فقتلته، ورمي به في تلك البئر.
فاذا كان فعلي هذا، وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول الله (صلي الله عليه وآله) فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار» (32).
ان أمثال هذه المظالم الكبرى هي التي استنت للطغاة والجبابرة اللاحقين حتى القرن الحادي والعشرين: أساليب البطش والفتك ومعالم الارهاب الدموي والقتل الجماعي، فاذا كان من يسمي بأمير المؤمنين!! هذا صنعه ووكده، فما بال هؤلاء الطواغيت الصغار، وهم لا يوصفون بأكثر من كونهم حكاما دكتاتوريين ليس غير، على أن بعضهم قد زاد على الرشيد أضعافا مضاعفة بوسيلة وأخرى حماية للحكم الهزيل.
أما تعقب هارون الرشيد للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فهو من أبشع مظاهر الأجرام في تأريخ الانسانية نظرا لمكانة الامام الدينية والقيادية واتصاله (صفحه 169) برسول الله (صلي الله عليه وآله) نسبا وسببا، وكونه الرافد الذي لا ينضب لموارد الشريعة الغراء.
لقد عزل الرشيد الامام عن شيعته، ومنعه من ممارسة طقوسه الايجابية، ورصد عليه حياته وأنفاسه، واستطال عليه بالسلطان، وغيبه في ظلمات السجون، والامام صامد صابر، والرشيد يتحين به الفرص، ويسد عليه المنافذ والمسالك، في معاناة رهيبة عبر عنها الامام في رسالة بليغة للرشيد قال فيها:
«انه لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتى نفضي جميعا الي يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون» (33).
ولم يكن هذا جزعا من الامام، ولكنه احتجاج صارخ عن مدي ظلامته، وتعبير ناطق عما يقاسيه دون جريرة، الا تلك المنزلة العليا التي ينعم بها في نفوس الأبرار، والا فالمعروف عن الامام أنه كان يردد في سجنه العبارة الآتية:
«اللهم انك لتعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم؛ وقد فعلت؛ فلك الحمد» (34).
ان تعرض الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) للأزمات الخانقة، ومظاهر الارهاب السياسي، وحياة السجون المريرة من قبل الرشيد، كفيل وحده أن يخرج الرشيد من منصب الخلافة المدعاة التي لم يمثل منها جزءا ضئيلا من الشرعية على الاطلاق، ولم تكن تصلح له الولاية العامة على المسلمين بحال من الأحوال، لأن ما حكم به عبارة عن أحكام عرفية طائشة صححها له فقهاء البلاط العباسي، وحياة فاجرة داعرة غض عنها الطرف القضاة والمعدلون، وموائد خمور وملاه وسهر ليال أحياها له المغنون المخنثون، وكل أولئك مشاهد حمراء أباحها حكم السيف القاطع والجور المستديم، وكان النظام مفقودا وحياة العيارين والشطار عامرة، وان ضبطوا السيطرة على الرقاب بالقسر والاكراه.
وفوق هذا كله فطالما روع الحكم الآمنين، وطالما سفكت الدماء المحرمة بغير الحق، وكان الاستهتار بالقيم والتجاوز على المباديء المقدسة أمرا متعارفا حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا!! كيف لا.. وقصور الخلفاء تعج بالفسق ومعاقرة الخمرة، والبغاء العلني والسري يستشري ولا مانع ولا رادع ولا وازع، وقد تقدم فيها سبق نهب الأموال واغتصاب الثروات والتلاعب بمقدرات الأمة، بلي كانت هناك شعارات يتشدق بها الحاكمون مجاراة للناس من جهة، وتثبيتا لدعائم الحكم من جهة أخرى، وهدف ذلك واضح للناقد البصير، وهو يتمثل باضفاء شيء من الشرعية جزافا على ذلك الكيان المدعي، وما عدا هذا الملحظ على ضآلته، فاننا لا نري صيغة حقيقية لادعاء الولاية في الدين لأولئك الذين لا يمثلون الدين لا من قريب ولا من بعيد في نظامهم السياسي القائم على الانحلال الخلقي والتخلي عن القيم الاسلامية على كل الأصعدة.
يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين:
«وكذلك اتضحت بما لا مجال فيه بشك أو تردد أيضا حقيقة أولئك المدعين للولاية الشرعية، فراغا من مواصفات التأهيل، وخلوا مما يجب أن يكونوا عليه من كفايات الاستحقاق. فلم يكن لديهم فقه بالشريعة وأحكامها، ولا علم بمعاني القرآن والحديث، ولا ورع يردعهم عن محارم الله، ولا التزام يصدهم عن متابعة الهوى واطاعة شهوات النفس الأمارة بالسوء» (35).
وهنا تتجلي الفروق المميزة بين هذا الفراغ العقائدي الهائل، وبين تلك القدرات العلمية الرائدة، وظواهر الانابة والخشوع عند الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) بما يحقق ولايته الشرعية دون أولئك المتلاعبين بمثل القرآن، وقيم الاسلام، ورسالة السماء.
ولم يكن الرشيد نفسه ليجهل هذه الحقيقة الصارخة وان تجاهلها، ولم يكن له أن يجحدها وان ألقي بستار كثيف على نصاعتها، فالملك عقيم كما يقول الرشيد، ولا أدل على ذلك من اعترافه واقراره لولده المأمون بالمنزلة العليا للامام، وأنه حجة الله على خلقه، وخليفته الشرعي على عباده!!
فقد حدث المأمون أن الرشيد هو الذي علمه التشيع!! وذلك أن الرشيد جلس لاستقبال الناس، ومنع أن يدخل عليه أحد الا انتسب، فدخل الفضل بن الربيع عليه وقال: على الباب رجل زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقال له الرشيد: ائذن له، ولا ينزل الا على بساطي... هذا والأمين والمأمون والمؤتمن والقواد شهود... فاستقبله الرشيد، وقبل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس، وأجلسه معه فيه، وجعل يحدثه، ويقبل بوجهه عليه، ويسأله عن أحواله... «وبعد استقصاء السؤال» قال الامام موجها وناصحا للرشيد:
«ان الله قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء هذه الأمة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا الى العاني، وأنت أولى من يفعل ذلك».
فقال الرشيد: أفعل يا أباالحسن.
ثم قام الامام، فقام الرشيد لقيامه، وقبل عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن، فقال... بين يدي عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه الى منزله، فأقبل أبو الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة، وقال لي: اذا ملكت هذا الأمر فأحسن الى ولدي، ثم انصرفنا.
يقول المأمون: وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس؛ قلت: يا أمير المؤمنين؛ من هذا الرجل الذي قد عظمته وأجللته؟ وقمت من مجلسك اليه فاستقبلته؟ وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟
قال: هذا امام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
فقال: أنا امام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر امام حق، والله يا بني انه لأحق بمقام رسول الله (صلي الله عليه وآله) مني، ومن الخلق جميعا، وو الله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فان الملك عقيم» (36).
ومع معرفة الرشيد بهذا المقام الأسمى للامام، فان اصبع الاتهام يومئ به للامام، مما يعتبره الرشيد منافسة في سلطان، وهو مما يلفق ويكذب به على الامام، فقد حدث الامام نفسه قائلا: «لما أمر هارون الرشيد بحملي، دخلت عليه فسلمت فلم يرد علي السلام، ورأيته مغضبا، فرمي الي بطومار، فقال: اقرأه.
فاذا فيه كلام، قد علم الله عزوجل براءتي منه، وفيه أن موسى بن جعفر يجبي اليه خراج الآفاق من غلاة الشيعة ممن يقول بامامته، يدينون الله بذلك، ويزعمون أنه فرض عليهم، الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويزعمون أنه من لم يذهب اليه بالعشر، ولم يصل بامامتهم، ولم يحج باذنهم، ويجاهد بأمرهم، ويحمل الغنيمة اليهم، ويفضل الأئمة على جميع الخلق، ويفرض طاعتهم مثل طاعة الله ورسوله، فهو كافر حلال ماله ودمه... والكتاب طويل، وأنا قائم أقرأ وهو ساكت، فرفع رأسه وقال:
اكتفيت بما قرأت، فكلم بحجتك بما قرأته.
قلت... والذي بعث محمدا (صلي الله عليه وآله) بالنبوة ما حمل الي أحد درهما ولا دينارا من طريق الخراج، لكنا معاشر آل أبي طالب نقبل الهدية التي أحلها الله عزوجل لنبيه (صلي الله عليه وآله) في قوله:
«لو أهدي لي كراع لقبلت، ولو دعيت الى ذراع لأجبت.»
وقد علم أمير المؤمنين ضيق ما نحن فيه، وكثرة عدونا، وما منعنا السلف من الخمس الذي نطق لنا به الكتاب، فضاق بنا الأمر، وحرمت علينا الصدقة، وعوضنا الله عزوجل الخمس، واضطررنا الى قبول الهدية، وكل ذلك مما علمه أمير المؤمنين...» (37).
ولم يكتف الرشيد بهذا، وانما استدعي الامام تارة أخري، وأدخل عليه، فقال له الرشيد:
يا موسى بن جعفر، خليفتين يجبي لهما الخراج؟
قال الامام: أعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله (صلي الله عليه وآله) بما علم ذلك عندك... (38).
ومع براءة الامام مما نسب اليه، فهو يجتمع به، ويتظاهر ببره، ويسأله عن مدي حاجته، ثم يبعث اليه بصرة فيها مائتا دينار، فيعترض عليه المأمون، فيقول له: أسكت لا أم لك، فاني لو أعطيته هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه (39).
وتارة أخري يعلل الرشيد منعه العطاء للامام بقوله:
«ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم» (40).
ومنع أهل البيت حق الطبيعي من بيت المال أسوة ببقية المسلمين على الأقل كان من الأهداف المركزية للبلاط العباسي، بل كان من أهدافه أيضا منع أوليائهم وأصحابهم ومن يمت اليهم بصلة من أي نوع من العطاء، واذا كان هذا صنيعهم مع شيعتهم، فما بالك بهم؟
وليت الرشيد اكتفي بما صنعه مع الامام من الاستدعاء والاستنطاق الذي لا مبرر له، ولكنه أغري به الفجرة من أولياء بني العباس، وجلاوزة النظام الحاكم.
ذكر السيد المرتضي علم الهدي (ت 436 ه):
«انه حضر بباب الرشيد نفيع الأنصاري، وحضر الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) على حمار له، فتلقاه الحاجب بالاكرام، وعجل له بالاذن.
فسأل نفيع عبدالعزيز بن عمرو من هذا الشيخ؟
قال: شيخ آل أبي طالب، شيخ آل محمد، هذا موسى بن جعفر.
قال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير، أما ان خرج لأسوءنه، قال له عبدالعزيز: لا تفعل فان هؤلاء أهل بيت ما تعرض لهم أحد بالخطاب الا وسموه في الجواب سمة يبقي عارها مدى الدهر.
وخرج الامام، وأخذ نفيع بلجام حماره وقال:
من أنت يا هذا؟
فقال الامام، يا هذا ان كنت تريد النسب؟ أنا ابن محمد حبيب الله، ابن اسماعيل ذبيح الله، ابن ابراهيم خليل الله. وان كنت تريد البلد؟ فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك ـ ان كنت منهم ـ الحج اليه. وان كنت تريد المفاخرة؟ فوالله ما (رضي) مشركو قومي مسلمي قومك أكفاء، حتى قالوا: يا محمد أخرج الينا أكفاءنا من قريش.
وانت كنت تريد الصيت والاسم؟ فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات المفروضة تقول: «اللهم صل على محمد وآل محمد» فنحن آل محمد، خل الحمار، فخلي عنه ويده ترعد، وانصرف مخزيا، فقال له عبدالعزيز: ألم أقل لك؟» (41).
وهكذا كان الامام يتجرع الغيظ من خلفاء الجور، وولاة السوء، وبطانة السلطان، وهو صابر محتسب، وكان أشدهم عليه ـ كما رأيت ـ هارون الرشيد في مجالات شتى، وسترى ما جرى عليه يديه من استشهاد الامام مسموما في موقعه من الكتاب.
اضف تعليق